خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ فَسَدَتْ، وَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى السَّجْدَةِ الْأَصْلِيَّةِ يَرْفَعُ تَشَهُّدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّشَهُّدِ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ (وَبَعْدَ سَجْدَتَيْهَا يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَجْلِسُ عَلَيْهَا نَاصِبًا يُمْنَاهُ وَاضِعًا يَدَيْهِ مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى فَخِذَيْهِ مُوَجِّهًا أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقْعُدُ الْقَعْدَتَيْنِ عَلَى هَذَا» (وَيَتَشَهَّدُ كَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) وَهُوَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ التَّحِيَّاتُ جَمْعُ تَحِيَّةٍ وَهِيَ الْمُلْكُ، وَقِيلَ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ، وَقِيلَ الْعَظَمَةُ، وَقِيلَ السَّلَامَةُ أَيْ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ وَجَمِيعِ وُجُوهِ النَّقْصِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّمَا جُمِعَتْ التَّحِيَّاتُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ كَانَ لَهُ تَحِيَّةٌ يُحَيَّا بِهَا فَقِيلَ لَنَا قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ أَيْ الْأَلْفَاظُ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمُلْكِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَوَاتُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقِيلَ كُلُّ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ الْأَدْعِيَةُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ الْعِبَادَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ قَالَ الْأَكْثَرُونَ الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا وَالَاهُ، وَقِيلَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ (وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ هُنَا) أَيْ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى يَعْنِي لَا يَأْتِي بِالصَّلَاةِ (وَيَكْتَفِي بِالْفَاتِحَةِ فِيمَا بَعْدَ الْأَوَّلَيْنِ) عَبَّرَ بِهِ لِيَتَنَاوَلَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ (وَإِنْ سَبَّحَ فِيهِ أَوْ سَكَتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى السَّجْدَةِ الْأَصْلِيَّةِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ) فِيهِ تَسَامُحٌ وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْقُعُودِ.
(قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّشَهُّدِ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ) فِيهِ تَسَامُحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقُعُودِ قُدْرَةُ التَّشَهُّدِ لَا حَقِيقَةُ التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ فَرْضٌ وَتَرْكَهُ مُفْسِدٌ وَالتَّشَهُّدُ وَاجِبٌ وَتَرْكُهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ) أَيْ التَّشَهُّدُ سُمِّيَ تَشَهُّدًا بِاسْمِ جُزْئِهِ الْأَشْرَفِ.
(قَوْلُهُ وَهِيَ الْمُلْكُ. . . إلَخْ) قَالَ فِي الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ أَحْسَنُهَا أَنَّ التَّحِيَّاتِ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ وَالصَّلَوَاتِ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَالطَّيِّبَاتِ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةِ فَجَمِيعُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ وَلَا يُتَقَرَّبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَى مَا سِوَاهُ ثُمَّ هُوَ عَلَى مِثَالِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَى الْمُلُوكِ فَيُقَدِّمُ الثَّنَاءَ أَوَّلًا ثُمَّ الْخِدْمَةَ ثَانِيًا ثُمَّ بَذْلَ الْمَالِ ثَالِثًا.
(تَنْبِيهٌ) : اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ مَعَانِي التَّشَهُّدِ لِلِاتِّكَالِ عَلَى الطَّالِبِ فِي بَاقِيهَا وَيَنْبَغِي لَنَا ذِكْرُهَا مُخْتَصَرًا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقْصِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيَهَا مُرَادَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُجْتَبَى بِقَوْلِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ بِأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ مَعَانِيَهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا مِنْ عِنْدِهِ كَأَنَّهُ يُحَيِّي اللَّهَ وَيُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا فِي السِّرَاجِ أَنَّ قَوْلَهُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ حِكَايَةُ سَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا ابْتِدَاءُ سَلَامٍ مِنْ الْمُصَلِّي اهـ.
وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَهِيَ مَا أَثْنَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَهِيَ سَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ ثَلَاثَةٌ بِمُقَابَلَةِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَثْنَى بِهَا، وَالسَّلَامُ تَسْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ أَوْ تَسْلِيمُهُ مِنْ الْآفَاتِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرَّحْمَةَ هُنَا الْمُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْإِحْسَانِ وَالْبَرَكَةُ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَيْرِ وَيُقَالُ الْبَرَكَةُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ. وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ إعْطَاءُ نَصِيبٍ مِنْ هَذِهِ الْكَرَامَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَرُّمًا لِإِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَلِهَذَا قَالُوا لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الشَّارِعِ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هُوَ صَالِحٌ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِي ظَنِّي خَوْفًا مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَأَمَّا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَمَعْنَاهُ أَعْلَمُ وَأَتَيَقَّنُ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعُبُودِيَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُدِّمَتْ الْعُبُودِيَّةُ عَلَى الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ صِفَاتِهِ وَلِذَا وَصَفَهُ سُبْحَانَهُ بِهَا فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [النجم: 10] .
(قَوْلُهُ وَيَكْتَفِي بِالْفَاتِحَةِ فِيمَا بَعْدَ الْأُولَيَيْنِ) أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا مُبَاحَةٌ وَلِهَذَا قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ تَبَعًا لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ إنَّ السُّورَةَ مَشْرُوعَةٌ نَفْلًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ حَتَّى لَوْ قَرَأَهَا فِيهِمَا سَاهِيًا لَمْ يَلْزَمْ السُّجُودُ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَفِي الْمُحِيطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الِاكْتِفَاءَ بِهَا أَيْ الْفَاتِحَةِ وَيُحْمَلُ مَا فِي السِّرَاجِ مَعْزِيًّا إلَى الِاخْتِيَارِ مِنْ كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى كَمَا فِي الْبَحْرِ.
(قَوْلُهُ: وَإِنْ سَبَّحَ فِيهِ أَوْ سَكَتَ) لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مِقْدَارًا وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ ثَلَاثًا كَمَا فِي الْبَحْرِ عَنْ الْبَدَائِعِ وَالذَّخِيرَةِ، وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ إنْ شَاءَ سَكَتَ.
وَقَالَ الْكَمَالُ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ سَكَتَ أَيْ قَدْرَ تَسْبِيحَةٍ، وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ نَقَلَهُ فِي النِّهَايَةِ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ إنْ شَاءَ سَبَّحَ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ، وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ قَدْرَهَا وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِالْأُصُولِ اهـ