«وهذا الباب في العربية دقيق المداخل والمخارج، يفضي إلى غير قضية. وهو باب يمسك النحاة منه بطرف وأهل البيان بطرف، لأنه باب يسلط فيه النظر على المبنى والمعنى. وللعلماء فيه مذاهب شتى، ودروب متباينة، وتأويلات مختلفة، ولكنه، على ما فيه من عناء، ممتع شائق لطيف، لأن النظر فيه عمل من إعمال العقل، تنقدح الحقائق للناظر فيه بعد طول تأمل، وإمعان نظر، وبعد نفاذ في بواطن المسائل، وتجاوز الظاهر المكشوف الخفي المستتر.» (?)
ومعاني الحروف من أعمال اللغوي الباحث عن دلالات الألفاظ المفردة، وإنما احتفى بها النحاة، وأفردوا لها كتبا؛ لأن الحروف روابط التركيب، وعلى التركيب ينصب عمل النحوي. وفي بعض كتب النحو نرى أن النحاة يسوقون معاني الحروف، ومنها حروف الجر أو الإضافة أو الصفات. (?)
فالعلماء في تناوب الحروف على رأيين: فالبصريون لا يجيزون وقوع بعض الحروف موقع بعضها الآخر، والكوفيون يجيزون ذلك. ويبدو أن تأدية الحرف معنى حرف آخر، عند الكوفيين، تأدية حقيقية لا مجازية، وإلا فما معنى التنويع في معاني الحرف الواحد؟ وما معنى أن يكون للحرف الواحد عدة معان؟ (?)
وكأن المؤلف رحمه الله قد تبنّى رأي الكوفيين في هذه المسألة، فنجده كثيرا ما يخرج الحرف إلى معنى حرف آخر، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا في تفسيره، وأحاول أن أوضح طريقته على الشكل الآتي:
1 - تناوب (أو): تكون بمعنى (الواو)، كما في قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، فجعلها هو بمعنى (الواو)، ونقل قول غيره بأنها بمعنى (بل)، وسوّغ قوله: إنها بمعنى (الواو) بقوله: «إلا أنه في مثل هذا الموضع لاستدراك الصواب بالأصوب» (?).
وفي قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200]، جعل (أو) بمعنى (بل)، ونقل قولا بأنها بمعنى (أو) (?)، أي: عكس سابقتها.
2 - تناوب (ثم): فقد جعلها بمعنى (الواو)، وذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:199]، وشبهها بالآية الأخرى من سورة يونس قول الله تعالى: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ} [يونس:46]. (?)
3 - تناوب (على): ومثال ذلك ما جاء في تفسيره قول الله تعالى: {وَاِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا}