إن سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم تجربة غنية بأحداثها، زاخرة بدلالاتها، متنوعة بمعطياتها، وما كان لباحث يسعى إلى إيفائها حقها من البحث والتحليل إلا أن يوسع نطاق رؤياه ويصبّ اهتماماته على هذه الجوانب جميعا؛ حركية وسياسية وعسكرية وشخصية وفقهية وروحية وواقعية وغيبية وعقيدية وحضارية.
ولم أشأ- من أجل تركيز الصورة وتحديد أبعادها بدقة- أن التزم الخط الزمني لأحداث السيرة، ذلك الخط الذي وقع في أسره معظم الباحثين، فضاعت في مجراه حقائق، وطمست دلالات وقيم، ما كان لها أن تضيع أو تنطمس لو قسمت وقائع السيرة إلى وحدات متجانسة خصص لكل وحدة منها مساحة مناسبة في البحث، استقصيت فيها سائر جوانبها ونسقت جلّ وقائعها، وحللت معظم دلالاتها وقيمها.
ومعروف أن التزام المجرى الزمني يدفع الباحث إلى أن يحشر في النقطة الواحدة، أو المقطع الواحد، مجموعة أحداث ووقائق متنافرة متقاطعة غير متجانسة، ويلجئه أحيانا أخرى إلى تقطيع الواقعة الواحدة إلى أجزاء متناثرة لا يضمها إطار واحد ولا يوحدها تجانس نوعي، وهذا- بطبيعة الحال- نتيجة محتمة للسعي وراء منطق التقسيم الرياضي الصارم للأيام والسنين، وهو الأسلوب الذي اعتمده مؤرخونا القدماء وعرفوه باسم (الحوليات) ، حيث لم يكن علم التاريخ ولا مناهج البحث فيه قد استكملت أسبابها بعد.
من أجل ذلك جاء هذا البحث يعرض أحداث السيرة كوحدات محددة الأبعاد، وبخاصة في عصرها المدني حيث تكثر الروايات وتتكاثف الأخبار وتزدحم التفاصيل.. تناولت فيها على التوالي: محمد بين الميلاد والنبوة، الدعوة في عصرها المكي، تحليل للهجرة، دولة الإسلام في المدينة، الصراع مع الوثنية، العلاقات بين الإسلام والجبهة البيزنطية- النصرانية، الصراع مع اليهود، ثم حركة النفاق في العصر المدني. وبقدر ما رأيت في بعض الروايات والأخبار قوة وأهمية، فوقفت عندها طويلا محللا مستنتجا، رابطا إياها في نسقها النوعي من الوقائع، بقدر ما لمست في روايات وأخبار أخرى ضعفا وانعدام أهمية فأغفلتها إغفالا تاما، أو مررت بها مرورا سريعا معتمدا في ذلك على المقياس الصارم وهو قبول كل ما لا يتعارض مع آيات القرآن الكريم ومعطيات السنن الصحيحة، ورفض ما عدا ذلك أو- على الأقل- عدم التسليم المطلق به.