لكن ذاك لغة! "1.
ومثل هذا الفصيح الذي يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا, ينصح ابن جني بتأمل كلامه، "فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال، كثرتهما واحدة، فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها، وسعة تصرف أقوالها"2؛ وهكذا ينقل ابن جني تنوع الاستعمال من الفرد إلى القبيلة، أو قل: من الانحراف الشخصي إلى العرف الجماعي؛ تهربًا من الاعتراف بشذوذ الفرد، ما دام فصيحًا!!
وهذا التهرب واضح في دفاع ابن جني عن الفصيح, حين تكون إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فهو يرى حينئذ أن التي كانت أقلَّ استعمالًا "إنما قلَّت في استعماله لضعفها في نفسه, وشذوذها عن قياسه، وإن كانت جميعًا لغتين له ولقبيلته"3؟. ويستشهد على ذلك بحكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بنصب النهارَ, وأن أبا العباس قال له: ما أردت؟ فقال: أردت سابقٌ النهارَ, فعجب أبو العباس لم لم يقرأه عمارة على ما أرداه فقال له: فهلّا قلته؟ فقال عمارة: لو قلته لكان أوزن: أي أقوى!
والنتيجة المنطقية لهذه المقدمات أن تتساوى اللغتان القوية والضغيفة في كلام الفصحاء، فهم "قد يتكلمون بما غيره عندهم أقوى منه، وذلك لاستخفافهم الأضعف؛ إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى4.