والوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره، وقوّاها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات عمليًّا قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما كانوا يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم، وخصائص ألحانهم, قال ابن هشام1: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها, ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات2".
ويبدو أن اللغوين الأقدمين لم يعرضوا للهجات العربية القديمة في العصور المختلفة عرضًا مفصلًا يقفنا على الخصائص التعبيرية والصوتية لهاتيك اللهجات؛ لأنهم شغلوا عن ذلك باللغة الأدبية الفصحى التي نزل بها القرآن، وصيغت بها الآثار الأدبية في الجاهلية وصدر الإسلام3.
وهم -لشعورهم بعدم توفرهم على دراسة هذا الموضوع دراسة دقيقة عميقة- كانوا يتخلصون من اختلاف اللهجات بالاعتراف بتساويها جميعًا في جواز الاحتجاج بها، بعد الاكتفاء بإشارات عابرة مبثوثة في كتب