يُقْضَى بها على أحد, ولكن هذا المنهج السليم سرعان ما انحرف واعتوره الضعف، منذ أن استبدل العرب القواعد بالحقائق, والمعايير بالوقائع، والإلزام المتسلط بالوصف الدقيق الأمين، وبدأ الناس يسمعون من اللغويين مثل هذه اللهجة الجازمة الحاسمة: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائها, ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"1.
عوَّلوا أول الأمر على سليقة الأعرابي، وظنوا أنه "إذا قويت فصاحته, وسمت طبيعته, تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به"2، واقتنعوا بأن الأعراب، "قد يلاحظون بالمُنَّة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع"3، ومع احتمالهم أن العربي الفصيح ينتقل لسانه4 إذا فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها5، ومنع رغبتهم حينئذ في رفض لغته، وترك تلقي ما يرد عنه، ورأيناهم يجنحون إلى تقييد الباحثين بما قاسه أولئك الأعراب، وقالوه، فلا يجرؤ أحد على قياس ما لم يقيسوه.
وغَلَوْا في سليقة الأعرابي غلوًّا فاحشًا, حين نسبوا إليه العجز عن نطق كلمة قرآنية بغير لهجته ولحنه، فقرأ أعرابيّ بالحرم على أبي حاتم السجستاني: "طيبى لهم وحسن مآب" فقال له: "طوبى، فقال: طيبى، فعاد أبوحاتم يصلحها له مرة أخرى قائلًا: طوبى، فقال: