فيعينه هذا التقليب ويأخذ بيده، ويفتح عليه من آفاق البحث ما لم يكن يحتسب: "ألا ترى أن أبا عليٍّ -رحمه الله- كان يقوي كون لام "أثفية" فيمن جعلها "أفعولة" واوًا بقولهم: جاء يَثفِه؟ ويقول: من الواو لا محالة؛ كيعده, فترجح بذلك الواو على الياء التي ساوقتها في يَثْفوه ويَثْفيه. أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف؟ وإنما ذلك لأنها مادة واحدة شكلت على صور مختلفة, فكأنها لفظة واحدة"1.
لذلك افتتح ابن جني "خصائصه" بتقليب حروف القول والكلام، كأنهما أراد أن يرسم للقارئ منهجه وهو بعد في أول الطريق، وصرَّح بأنه إنما رسم له من منهجه رسمًا ليحتذيه ويتقبله فيحظى به، ويكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من أجله2, فإن هذا "أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق3، لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرح واحد من تتالي الحروف من غير تقليب لها ولا تحريف4.
بيد أن ابن جني -على استعانته بهذا الاشتقاق الكبير واسترفاده أياه- ما كان لينخدع بما وراء تقليب الأصول فيه من نتائج وأحكام، وما كان ليعمم هذه النتائج والأحكام على جميع المواد والأصول, فقد يتقارب أصلًا في التركيب بالتقديم والتأخير من غير أن يكون أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، كقولهم: "جذب، وجبذ، ليس أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، وذلك أنهما جميعًا يتصرفان تصرفًا واحدًا نحو:
جذب يجذب جذبًا, فهو جاذب, والمفعول مجذوب، وجبذ يجبذ جبذًا, فهو جابذ, والمفعول مجبوذ؛ فإن جعلت مع هذا أحدهم أصلًا لصاحبه فسد