التجريدي، ويستعمل في العلوم، والثالث هو المستوى العملي الاجتماعي العادي وهو الذي يستخدم في الصحافة والإعلام بوجه عام. وهذه المستويات الثلاثة كائنة في كل مجتمع إنساني، والفرق بين المجتمع المتكامل السليم، والمجتمع المنحل المريض هو في تقارب المستويات اللغوية في الأول، وتباعدها في الآخر. فتقارب مستويات التعبير اللغوي دليل على تجانس المجتمع، وتوازن طبقاته، وحيوية ثقافته. ومن ثم إلى تكامله وسلامته العقلية، فمن الثابت أن العصور التي يسود فيها نوع من التآلف بين المستويات العلمية والأدبية والعملية، هي غالبا أزهى العصور وأرقاها. أما إذا كان كل مستوى لغوي بعيدا كل البعد عن الآخر فهو دليل على الانفصام العقلي في المجتمع، وهذا إلى التدهور والانحطاط والشيخوخة والانحلال1.
وقد حدث هذا لأوروبا في العصور الوسطى عندما كانت اللغة اللاتينية مستأثرة بالدراسات الأدبية، بينما كانت اللغات الاجتماعية محتقرة منبوذة، لا تستعملها إلا الطبقات العاملة الفقيرة، فعاشت في عصور مظلمة، وباتت تتردى في الجهل والتعصب والتنافر والتنابذ. وفي الوقت نفسه، سادت في العالم الإسلامي آداب رفيعة، وكانت اللغة العربية شائعة بين الحكام والمحكومين، مستعملة في الآداب والعلوم، وفي الحياة العملية. ولم تكن الفروق اللغوية بين هذه المستويات شاسعة مفزعة، كما كانت في أوروبا بين اللاتينية والإنجليزية أو الألمانية مثلا، فكان تآلفا في المجتمع وانسجاما بين طبقاته، وحيوية وتكاملا في العقل الجماعي والوجدان الجماعي.
وعندما أهل عصر النهضة في أوروبا، وأخذت اللغات المحلية تتبوأ مكانتها اللائقة بها، وتقاربت المستويات اللغوية في الأدب والعلم والمجتمع، أخذت العقلية الاجتماعية تسترد قوتها وسلامتها، وزايلها الانفصام العقلي، وتقاربت المستويات نسبيا، حتى إذا بلغت اللغات المحلية مبلغ النضج والاستواء، كان دانتي وشكسبير وبيكون ولوثر ثم نيوتن وجاليليو وغيرهم.