قليلاً استنكف عن العمل في الزراعة كما كان هو وأبوه، ومنهم من بنوا القصور الغناء والدور القوراء في مزارعهم، وأخذوا ينعمون بطيب العيش، ويبحثون أوقات فراغهم في أمور ما كانت لهم ولا كانوا لها، ويلهون ويلعبون على الطرق التي
اقتبسوها في مهاجرهم. وقد كانت جبال لبنان وعامل والعلويين وقلمون والخليل والسامرة من أشد الأصقاع التي تأذت بالهجرة فتأخرت زراعتها فوق تأخرها. ولقلة اليد العاملة رأينا بعضهم في البقاع يقرن امرأته إلى ثوره تعمل مع فدانه، ورأينا الحورانة يستكثرون من الأزواج يتخذونهن أجيرات في أعمال الحقل وعلف الدواب واستخراج الدرّ وعمل السمن واللبن. ولئن دخلت القطر أموال طائلة بسبب الهجرة فثروة أمة لا تعد بكثرة نقدها بل بكثرة ما يعمل أبناؤها في أساليب الرزق المختلفة، وقلّ أن أُنفق مال يذكر على تحسين الزراعة وإقامة الشركات النافعة، ونحن لم نبرح ننشد مع حافظ إبراهيم:
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب
يضرب المثل بزكاء منابت الشام واعتدال أهويتها، وجودة مناخها، وكثرة مياهها، على كثرة حزونها وجبالها، وإن أرضاً تعطي حبتها في بعض الجهات مائة حبة، كأرض الرحبة بالقرب من جبال الصفا، لتعد من أخصب بقاع الأرض، وذلك لأن أرضها مستريحة منذ العصور المتطاولة. فإذا كان بنوا إسرائيل قد جعلوا عادة لهم أن يريحوا أرضهم مرة كل سبع سنين، فإننا قد أرحناها منذ قرون، ولذلك لا تضن علينا بخيرات سطحها كلما حرثناها وزرعناها.
وما زالت زراعتنا كما عرفها الأجداد بل كما عرفها الإنسان منذ آلاف من السنين، ليس فيها شيء من العلم إلا التجارب، ولا من التغيير إلا ما تضطر إليه الأحوال وتهدي إليه الفطرة، ولذلك يعوزها كثير مما يجود في غيرها من النباتات والأشجار. قال الرحالة فولني في كلامه على مناخ الشام: إن الأرز يجود زرعه على شواطئ بحيرة تاحولة، والنيلة تنبت بلا عمل على ضفاف نهر الأردن في بَيْسان وهي لا تحتاج إلا قليل من العناية حتى تستوفي الشروط المطلوبة. وبعد أن
أفاض القول على مدن الشام قال: إن دمشق تفاخر وحق