لما حررت النفوس، ومن أهل القرى من خرجوا عن ملك أراضيهم لأنه وجد فيها قتيل، وكانت العادة ولا تزال إلى اليوم أن يلزم أهل الأرض بدية من يقتل فيها أو تفرض غرامة ثقيلة عليهم، فمنهم من تركوا أرضهم مخافة أن يُلزموا بمال لا قِبَل لهم بأدائه. ومن القرى ما خرج عن ملك أهله كما وقع لأهل مرج ابن عامر في القرن الماضي لما عجزوا عن دفع الأموال الأميرية فباعته الحكومة التركية بالثمن البخس صفقة واحدة لرجل واحد مقابل رشوة قبضها الوالي.
ومن المرابين من اقتنوا قرى كثيرة في الديار الشامية لأنهم كانوا لا يشفقون على الفلاح باشتطاطهم عليه بأخذ الربا الفاحش. وما زلنا في كل دور نرى الفلاح في أكثر الأقاليم يقترض المائة بمائة وخمسين من الخريف إلى البيدر وأحياناً ترتفع
الفائدة إلى أكثر من هذا القدر، فإذا أُضيف إلى ذلك ظلم الأعشار (1) وتعدد الضرائب على الفلاح حتى كاد يهلك بسببها، لا نستعظم إذا رأينا خراباً، بل نقول: لماذا نرى هذه الرشاشة من العمران قرب المدن والثغور، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات.
ولقد كانت الأوقاف من جملة ما أخر الزراعة، ذلك لأن الأراضي الموقوفة تجمد على حالة واحدة في أشجارها وغلاتها ومجاريها وسكورها وزرائبها، وكل جسم لا ينمو يصيبه الفناء. وعلى كثرة ما وقف المسلمون على أعمال البر وغيرها لا يمضي القرن والقرنان حتى يعود الوقف ملكاً صرفاً، ولولا ذلك لكثر الخراب أكثر مما هو الآن في القرى والحدائق. ولو دام حكم إبراهيم باشا المصري إلى اليوم لأصبحت أرضنا عامرة كمصر لأنه نشط الزراعة وأمر بنشر دود الحرير ودود القز وعلم الأهالي كيفية قطف الزيتون بالأيدي حتى صار شجره يعطي ثمراً كل سنة فاستعادت بعمله أكثر القرى عمرانها القديم.
كتب قنصل بريطانيا في دمشق سنة 1859م بمناسبة زيادة الضرائب على الأهلين وتوكيل الجنود بجبايتها بالعنف: إن الحكومة تأخذ مال الشعب ظلماً وعنفاً، ولا تحميهم من البدو الذين يزدادون جرأة واعتداءً، وعملهم قائم