وتعريفهم إلى رجال غير رجالهم. والعاقل من حرص على نفع أمته قبل كل نفع وانتفع بما عنده قبل أن يتطال إلى ما عند غيره. ومن زهد في لغة آبائه وجدوده كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته. واللغة والوطن يصح أن يكونا اسمين لمسمى واحد. جنت مدارس الأجانب والحكومة أعظم جناية، لأن المتخرجين فيها ومعظمهم من الذكاء على
جانب لم ينفعوا الدولة ولم ينفعوا الأرض التي ولدوا فيها. إن المدارس غير العربية في الشام أشبه بالسارق الذي يسرق الأعلاق ونفائس المتاع، أستغفر الله بل إن من يسرق فلذات الأكباد، ليخرجها على ما أراد، أشق على النفس وطأة، وأعظم في المغبة أثراً. وهل يقاس سارق الأموال بسارق الأطفال والرجال؟ أوَ ليست الأرواح أثمن من كل بضاعة، وهل أعز من الولد على قلب أبويه. إن المدارس التي تعلم على غير الأسلوب الوطني هي التي تسلب من الشام اليوم بعد اليوم روحها، وناهب الروح ماذا يدعى في الشرع والعقل. ولم يبلغ البشر درجة من التمدن حتى تتساوى في عيونهم اللغات والعناصر كلها، وتتجرد أمة فتفنى لإحياء غيرها، وتقلل جنسيتها لتزيد سواد أُخرى، ولا تهمها دارها وتريد هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها.
في نحو سنة 1278 فتحت حكومة حلب المدرسة المنصورية وهي أول مدرسة أميرية أُنشئت في حلب. وأنشأ مدحت باشا في دمشق سنة 1295هـ ثماني مدارس ابتدائية للذكور والإناث ودار صنائع، وأسس مثل ذلك في أعمال ولايته الواسعة، وما برحت المعارف مذ ذاك العهد تعلو وتسفل والحكومة لا تطلب من المدارس الابتدائية والثانوية إلا أن تُخرج لها طبقة من الموظفين ملكيين وعسكريين يكونون أتراكاً بألسنتهم لا بقلوبهم، عثمانيين بتربيتهم لا بأصولهم، وقد أخذ دعاة تتريك العناصر يقاومون العربية سراً، فما هي إلا أعوام حتى أصبح معظم الدارسين في مدارس الحكومة يخرجون بعد درس عشر أو خمس عشرة سنة، وهم لا يحسنون لغتهم ولا لغة الدولة الرسمية،