غيرهم، كما يحترمون الأوهام وحب العمالات التي ينزلونها. ولما استولوا على مدينة الأستانة كانوا يوجهون أنظارهم على الدوام إلى المواطن التي أنشأتهم وتناسلوا فيها، فكانوا أشبه بسياح وفاتحين عابري سبيل في أوربا: من ورائهم قبور أجدادهم، ومهاد عباداتهم وكل ما يقدسونه ويحترمونه، وأمامهم شعوب يكرهونها، وأديان يريدون القضاء عليها، وأقطار يتراءى لهم أن الباري تعالى يلعنها. وأهم ما أخر الأتراك وقادهم إلى انحطاطهم، ذكرى مجد سالف، وإعجاب وطني لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم، فكانوا يستهينون، ولهم القوة، بالأخطار التي تهددهم، فإذا كتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم.
هذا رأي المؤرخ الفرنسي في العثمانيين وعلة انحطاطهم وقال غيره وأغرق: إن
شأن الأتراك العثمانيين في الولايات التي يفتحونها إذا رحلوا عنها شأن جماعة من البدو نزلوا منزلاً موقتاً ضربوا خيامهم فيه، إذا ترحلوا عنه من الغد لا تشاهد بعدهم في الأرض التي نزلوها سوى آثار أطنابهم، وعمد خيامهم فقط.
أظهر والي مصر محمد علي وهو بعض عمال الدولة العثمانية مثالاً مجسماً من التجدد في الممالك، وبدت أمارات قوته بعد أن قرض المماليك من مصر، فلم يسع الباب العالي إلا الاعتراف بسلطته ومحاسنته، شأنه مع كل عامل أحرز قوة، على شرط أن يؤدي الجزية، ويعرف كيف يصانع رجال الدولة وسلطانهم. وكان محمد علي أسعد طالعاً من سلطانه، لأنه لم يصطدم يوم قام بإصلاحه بما اصطدم به السلطان محمود في تطبيق الإصلاحات، راى من المصريين قبولا لدعوته، واستعداداً للمدنية، وهو لم يقاوم الطبيعة كما قاومها الترك العثمانيون في السياسة التي استخدموها للقضاء على العناصر، بل استعرب وتمصر وألف بطانته من كل من يخدم مصر بدون عصبية.
قام بما أراد في مملكته الصغيرة أحسن قيام، وفتح صدره لكل جديد،