الولاة في هذه الديار يكونون على الأغلب ممن لا ذمم لهم ولا قدرة إلا على جلب المغانم لأنفسهم، وإزهاق الأرواح في ذاك العصر من الأمور الهينة التي لا تستغرب.
بعد الفتح العثماني واندحار المماليك في مرج دابق والضرب على أيدي العصاة في فلسطين، كان الرجاء معقوداً أن تخلد الشام إلى الراحة ويرفرف عليها طير السعد، فزادت المكوس والضرائب على وجهٍ قاسٍ، وكثر فساد جيش الدولة من الانكشارية والسباهية، فكان يأتي على الأخضر واليابس في المدن والقرى، خصوصاً إذا جاء البلاد منهم فوق حاميتها كتائب أخرى لتشّي فيها، وهناك يزيد الاعتداء على البيوت والأعراض والأموال. وربما تخطفوا النساء والأولاد في الأزقة رابعة النهار، وفي أول حكم السلطان سليمان أي بعد أربع سنين من الفتح كان ما كان من عصيان الغزالي فهلك كثير من الأبرياء في دمشق وحلب، وارتكب الوزير فرهاد باشا لتسكين الفتنة والضرب على يد الثائر من الشدة ما عج بالشكوى منه كل إنسان.
ويمكن حصر مصائب هذا الدور في أمور ثلاثة: ظلم الوالي ويكون في الغالب عاتياً مرتشياً، وظلم الجند في حلهم وترحالهم، وشقاء الديار بصغار الأمراء من أهلها، في الجبال والسهول، وكبار أرباب النفوذ في المدن. وهذه الطبقة تطورت تطوراً جديداً في عهد العثمانيين فكانت من أكبر الأسباب في فساد البلاد، ولو صلحت وسلمت من ظلم بعضها بعضاً لما استطاع الوالي التركي والقاضي التركي
والقائد التركي أن يعملوا مباشرة في هذا القطر عملاً مضراً. وأهمُّ من هذا وذاك أن الدولة العثمانية على عهد عزها لم تفكر إلا في الفتوح، وفي حرب من يجاورها من صغار الأمراء والملوك، حتى إذا كانت أيام إدبارها وهي تبدأ من أواخر سلطنة سليمان القانوني، كانت همتها مصروفة إلى قمع الفتن الأهلية، ورد عادية أعدائها عن مملكتها الواسعة.
إن ابن الشام لا يهتم كثيراً إذا بلغت جيوش الدولة العثمانية أواسط أوربا في فتوحها وفتحت بودابست وأشرفت على فينا، وإذ فتح سليمان زهاء ثلاثمائة حصن وقلعة، وأصبح اسمه في الغرب مضرب الأمثال في الرهبة، فكانت بعض الأمهات يخوفن أبناءهن باسمه إذا أردنهم على الرقود والكف علن البكاء،