مثل مهاجرة السوريين في نيويورك وسان باولو ومن يحاول أن يلبس إنطاكية والإسكندرونة ثوبا تركيا هو كالواقف أمام البداهة، والأولى أن ينظر إذ ذاك إلى عرب مرسين وطرسوس ويردوهما إلى الشام. وما هما من حيث الجغرافية واللسان إلا شاميتان. وبعد فإذا أردنا أن نحصي المتكلمين فقط بغير اللغة العربية في الشام بحدوده الطبيعية لا نراهم
يزيدون على ستمائة ألف من عناصر مختلفة وسط سكان يربي عددهم على سبعة ملايين. والعربية مع هذا تأخذهم فتعربهم وأكثريتهم يهود ثم أرمن وسريان والباقون مسلمون يرون تعلم العربية فرض عين عليهم أو نصارى من أصول عربية يحرصون على لغتهم كما يحرص المسلمون عليها.
إذا عرفت هذا فقد ساغ لك أن تقول: إن اللغة العربية دخلت واسعة النطاق إلى الشام من الجنوب منذ خمسة وعشرين إلى ثلاثين قرنا وزادت بالإسلام رسوخا وانتشارا. ولم يمض القرن الأول حتى استعربت وامتزج العرب الفاتحون والمهاجرون بالسكان من السريان فأصبحوا أكثرية مع الزمن وغلبت على الكافة الصبغة العربية غلبة الإنكليزية على أهل كندا والولايات المتحدة الأميركية في القرون الأخيرة. وما أهل كندا وأميركا الشمالية إلا مهاجرة من إنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وأسبانيا والمجر وروسيا وغيرهم من الأمم غدوا أمريكاناً بقوميتهم إنكليزا بلغتهم ومناحيهم. وليس في الأرض فيما نعلم صقع تكوّن أهله من عنصر واحد وخلا من عناصر دخيلة امتزجت فيه، بل إن الأمم الكبرى في الغرب وهي خمس أمم أو ست مؤلفة من بضعة أجناس من الناس جمعتها لغة واحدة، وليس عمر أقدم لسان من ألسنة العالم المتمدن اليوم أكثر من عشرة إلى اثني عشر قرنا، على حين أن عمر العربية في الشام أكثر من ذلك بضعفين على أقل تقدير. وكلما دخل هذا الجسم جسم جديد تلقح به وأدغم في مجموعه فزاده قوة ومضاء.
لم ترسخ اللغتان اليونانية واللاتينية في هذه الديار رسوخ السريانية أولاً