بين قيس ويمن ووقوع الحرب والقتال بينهم، والسبب في ذلك تغيير العوائد والتدليس على الملوك والحكام وولاة الأمور، بالإغراء والتسلط على الفلاحين بالظلم وطلب العاجل، والعسف في الحكم والميل مع القوي، وإنهاك الضعيف وعدم رد لهفة الملهوف، ومع تغيير العوائد وقع التحاسد بينهم فاضطر كثير من أهل الزرع والضرع إلى التمرد والتشرد وتسلطت العربان والعشران وتراكمت الأهواء ووقع التحاسد والإغراء، فنهبت الأموال وقتلت الرجال وتخلت العشائر وعظمت الفتن بين القبائل، وجلا أهل الزرع والضرع من الفلاحين عن أراضيهم فأوجب ذلك الخراب في كثير من أرجاء الشام، وصارت دمناً يشهد لذلك الديوان من أسماء القرى التي صارت مزارع وتسمى بالخراب الدائر، والموجب لهذا جميعه سوء التدبير مع نقص القوة ونقض سنة العدل، إلى أن صار الحكم لمقدمي الفلاحين ورؤساء العشران، وصار الأعيان منهم يظهرون الطاعة للسلطان ويبطنون المخالفة والعصيان، ويستخرجون الأموال بالظلم والطغيان، ويرضون ببعضها من له في الدولة سلطة، وبما يحملونه للأعوان من الهدايا والأموال، فيسعى لهم ويلبسون التشاريف الملوكية بين يدي الملك والأمير والسلطان، فيصير كل واحد منهم في بلده وإقليمه إذا عاد إليه ذا قوة وسلطان، وسطوة وأعوان، وإقطاعات ونعم وديوان.
قلنا: وهذا الاختلاف الدائم بين قيس ويمن كان يقوى ويضعف بحسب الوازع، فإذا وفقت الديار إلى حاكم يسوي بينهم ويعدل فيهم تسكن نغمة القيسي واليماني، وإلا فيتقاتلون ويخربون العمران ويقتلون الإنسان. وكانت هذه النغمة شديدة في أرض دون أُخرى من أرض الشام، فقد كانت في القديم في حمص حتى ضرب المثل بها فقالوا: أذلُّ من قيسي بحمص وذلك أن حمص كلها لليمن ليس بها من قيس إلا بيت واحد. ثم كانت ترى آثارها في حوران ولبنان وربما انتقلت نغمتها من حوران منذ جلاء كثير من الأسر المسيحية إلى جبل لبنان وبقيت في هذا الجبل إلى القرن الماضي ثم اضمحلت.