من مصر لفتح عكا بالعساكر المصرية والشامية فهرب جماعة من أهلها من الفرنج في المراكب لما هاجمها المسلمون كما فعلوا في طرابلس على عهد والده واستنزل الأشرف جميع من عصى بالأبرجة التي كانت داخل البلد، وهي بمنزلة قلاع دخلها عالم
عظيم من الفرنج وتحصنوا بها فاستنزلهم السلطان وأمر بضرب أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بالمدينة فهدمت إلى الأرض ودكها دكاً. وكانت كما قال الذهبي من أحسن المدائن بالعمارة والبناء الفاخر فلما فتحها الأشرف وهدم سورها هرب أهل المدينة منها وصارت خراباً، وصار الناس من حينئذ ينقلون منها الرخام الملون مدة طويلة. ومما وجد مكتوباً على باب كنيسة من كنائس عكا أبيلت لابن ضامر الضبع:
أم الكنائس إن تكن عبثت بكم ... أيدي الحوادث أو تغير حال
فلطال ما سجدت على أبوابكم ... شمُّ الأنوف جحاجح أبطال
صبراً على هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال
ولما فتحت عكا رُعب الفرنج في الساحل فأخلوا صيدا فأخربها السلطان وجزيرتها وقلعتها الجنوبية والشمالية. واستولى على بيروت فهدم سورها ودك قلعتها وكانت حصينة جداً واستولى على صور وكان أهلها مثل سائر الساحل. وكذلك عثليث وكانوا أوقدوا فيها النار. وسلمت أنطرطوس بالأمان وطرد السلطان الفرنج من جبيل وهدمها ودك قلعتها. وهربوا من أنفة والبترون وصرفند وإسكندرونة بالقرب من عكا وذلك في مدة سبعة وأربعين يوماً وكان فتحاً مبيناً.
خرب الساحل كما رأيت بهذه الضربة الأخيرة ولكن استقلت الشام ونجت من بقايا الصليبيين الذين كانوا ينغصون عيش الدولة والأمة، ولا يؤخذ على الأشرف استئصاله شأفة أعدائه وإهلاكه لهم عن آخرهم، فقد كان على الصليبيين بعد وقعة حطين وفتح القدس أن يغادروا القطر جملة واحدة وظنوا تسامح صلاح الدين يوسف معهم يومئذ ضعفا وأدرك كل من تولى زعامة الشام بعده أنه يستحيل الخلاص من الفرنج إلا بإفنائهم، وآخر الدواء الكي.
دخلت الجيوش الصليبية الشام سنة 491 وخرج منها آخر المنهزمين سنة