وبكت العيون، وانتحبت النفوس، لأنه لم يحي مصر والشام، بل أحيا بعمله المسلمين والإسلام، وكان كما ذكره ابن شداد: رؤوفاً رحيماً، ناصراً للضعيف على القوي، يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس، في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً، على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصداً أبداً، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته.
مات صلاح الدين وقد ملك مصر أربعاً وعشرين سنة والشام تسع عشرة سنة، وملك الجزيرة واليمن، ولم يحفظ ما تجب عليه الزكاة، فإن صدقة النفل استنزفت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرياً وجرماً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وكان رحمه الله يهب الأقاليم، ويعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم مهمٌّ، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وكان كثيراً ما يقول: إن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا
زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها. وقد ذكر القاضي ابن شداد وعماد الدين الكاتب من خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية، وعدله وكرمه وشجاعته، واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه، وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة، ما هو العجب العجاب، وبعضه إذا جمع في شخص كان مفخراً من المفاخر على توالي الأحقاب.
ملأت خيرات صلاح الدين جميع الأقطار التي خفق علمه عليها، وملأت أوقافه مصر والشام وهي غير منسوبة إليه. قال ابن خلكان: ولقد أفكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر اهـ.