من آثار نجدتهم وجلادتهم ما تطأطىء أمامه الرؤوس فلا يصفق الناس لهم زوراً ورياء ولا يدعون لهم على المنابر بما لا يقبل ولا يسمع إن لم يكن بين جنوبهم نفوس
عالية ممتازة قلَّ في طبقة قواد الأمم مثلها. ولم يبق في الحقيقة بعد نور الدين من يصلح لهذا الأمر مثل صلاح الدين لأنه أنبغ رجاله وأكبرهم مقاماً وشأناً وأقربهم إلى قلوب الأمة، وهو ملك مصر حقاً، ومن ملك مصر كان حرياً بأن يملك الشام، خصوصاً والشام يحبه، لما بدا من غنائه ومضائه في نصرة الملة والدولة.
ولكن نور الدين قد خلف ولداً يقضي قانون الوراثة في الملوك في تلك الأعصر بأن يرث الابن ملك أبيه كما يرث قصره ومزرعته مهما كانت سنه، ويتولى رجال الدولة أمره ويكفله من يعطفون على دولته ومن غذوا بنعمة أبيه وآله، بيد أن الحالة السياسية في الشام ومصر وما إليهما من الممالك كانت بحيث يقتضي الشذوذ عن هذه القاعدة ولو إلى حين، فيوسد الملك إلى من جمعت أشخاصهم الكفاءة قبل كل شيء لتخرج المملكة من مأزقها الحرج، وهذا لا يتيسر أن ينهض به ولد يافع بلغ من العمر إحدى عشرة سنة، ونعنى به ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل. فانظر كيف تصرفت الأقدار بما فيه الخير، ولم تترك مصالح الدولة للأصُول السخيفة في توسيد الملك للكبير والصغير على السواء.
توفي في دمشق نور الدين في سنة 569 وبالحال ملك ابنه الصالح إسماعيل وحلف له العسكر بدمشق وأطاعه صلاح الدين وخطب له بمصر وضرب السكة باسمه، ودبر دولته شمس الدين بن المقدم من أعظم أُمراء أبيه، واستولى سيف الدين غازي شقيق نور الدين محمود على الديار الجزرية وهي لنور الدين، وكان صلاح الدين في مصر، فجعل الملك للملك الفتى كما كان لأبيه من قبل. بيد أنه من المتعذر إدارة المملكة في ذاك العصر إذا لم يحكمها رجل عظيم استوفى شروط الحكم، فيصدر عن رأي واحد يمحضه أولاً بمشورة رجال دولته ويكون هو المرجع فيه والمسؤول عنه، يهتم لملكه اهتمامه بابنه وابنته، وهل يتيسر ذلك إذا تشعبت الآراء. وكان صاحب الملك الرسمي قاصراً وأوصياؤه يدبرونه وربما
كان فيهم من تطمح نفسه إلى الاستئثار بالسلطة، ومتى كان الوكيل كالأصيل، والمتنفل كالمكلف:
ممالكٌ لم يدبرها مدبّرها ... إلا برأي خصيِّ أو بعقل صبي