قصدتنا ونزلت علينا فلما عاد الرسول بهذا الجواب أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى دمشق. وما ندري إذا كان ذلك الجواب صدر قبل وفاة معين الدين أتسز والي دمشق وصاحب أمرها نيابة عن أولاد طغتكين، وكان أتسز صالحاً عادلاً محسناً كافاً عن الظلم متجنباً للمآثم، محباً للعلماء والفقراء، بذل مجهوده في حفظ بيت سيده طغتكين فلما مات أخذ ملك مجير الدين في الانحلال.
آذنت شمس دولة أبناء طغتكين بالمغيب، لهلاك الرجال الغيورين عليها، ولأن أربابها أخذوا يتقوون بالفرنج على أبناء نحلتهم حباً بأن يبقوا في ملكهم ورفاهيتهم. ولكن دولة نور الدين التي أصبح لها المقام الأسنى في الشام بعد أن حالف التوفيق أعلامها أكثر من مرة في سنين قليلة أخذت النفوس تتطلع إليها، وتعلق الآمال الطيبة عليها. وقد كانت دمشق التي أجابت نور الدين بهذا الجواب الفظ نشبت فيها هذه السنة فتنة بين الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وذلك لاستيحاش الرئيس في دمشق من مجير الدين صاحبها، ولم تزل الفتنة ثائرة إلى أن أبعد من التمس إبعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة.
ولكن هذه الفوضى في دمشق يصعب دوامها، وليست المسألة مسألة تقريب رجل أو رجال من أركان الدولة أو اصطلام ثائر وخارج على الجماعة، وقد سرت روح الغضب حتى إلى أقرب الناس من الآل الملوكي، وقوة نور الدين تشتد وشائجها، ودعوته تزداد انتشاراً اليوم بعد اليوم، فلم يسع أولي الأمر في دمشق سنة 540 إلا تقرير الصلح بينهم وبينه، فأقيمت الخطبة لنور الدين على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وضربت السكة باسمه وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة السلطنة والطرق والسوارين وخلع على الرئيس ابن الصوفي خلعة الوزارة فبذلا له الطاعة وأعادهما إلى عملهما وطيب قلوبهما ورحل إلى حلب والقلوب معه لما غمر العالم من خيره. عمل مجير الدين وابن الصوفي هذا العمل مكرهين أمام قوة قاهرة، عملاه وهما يسران حسراً في ارتغاء، على أمل أن ينتقما من نور الدين باعتصامهما بالصليبيين حتى اضطر في السنة التالية 546 أن يسوق عسكره إلى دمشق فنزل أوائل جنده على أرض عذراء، وقصد فريق وافر منهم ناحية السهم