في الوسط والجنوب غير أعاظم قواد بني العباس، أطفئوها بالعقل والتؤدة، وقد رأينا أن عصبية الأمويين لم تنقطع على شدة العباسيين في استئصالها، وكان كل حين يثور ثائر باسم السفياني، ويثور معه جماعته ولا سيما من أهل القرى والبوادي. وكانت الأحوال أخذت تهدأ على عهد الرشيد والمأمون، فتفرغا لإجراء الإصلاح. وكان الرشيد تولى شمال الشام أيام كونه ولياً للعهد، والمأمون زار الشام ثلاث مرات يقيم فيها نصاب العدل، ويوطد دعائم المدينة، وعدّ عهده أبيه من أجمل عصور التاريخ الإسلامي. المأمون الخليفة العادل، وممثل التسامح المحمدي العجيب، ومحكّم العقل في أحكامه ومعتقداته، وقلما اجتمعت صفات كصفاته وعقل كعقله وعلم كعلمه لخليفة من خلفاء الإسلام.
وكأن ما وقع في أوائل عهد العباسيين من الغوائل التي غالت أهل البوادي والحواضر في هذه الديار كان عقوبة لأهلها عما قدمت أيديهم من خيانة عهد بني أمية ونفض أيديهم من مروان بن محمد لأول ظهور قوة خصمه وإدبار الأمر عنه، حتى قاتلوه وطاردوه، على مثل ما قاتله جيش خراسان العباسي وزيادة، فتعجلوا انقراض دولة الأمويين معلقين آمالهم على الدولة الفتية. ولذلك زعم بعضهم أن الملك في الشام لا يثبت، لعدم الثبات المغروس في فطرة أهله، ولتلون الطبائع فيه تلوّن أقاليمه وسمائه وهوائه. وكان من أثر العادة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم، وهي عادة الغزو المتأصلة في غير سكان المدن، أن نشبت الثورات وكثر قتل الأنفس وغرست هذه الاضطرابات في أرض الشام فنمت، خصوصاً وجبالها أكثر من سهولها على الأكثر، وتصلح للدفاع والهزيمة والاستمرار على المشاكسة لصاحب القوة.
بالغ العباسيون في إهراق الدماء لأول أمرهم، وقضوا على آثار بني أمية، وهي
كثيرة جداً، ومع ذلك كان اسم الأموي والسفياني يرنّ في الآذان، والمستعدون للثورة يمتشقون الحسام عند أول داعية يسمعهم صوته، أو ثائر يستتبع الناس ويعدهم الوعود الخلابة. نعم إن التنازع بين القيسيين واليمانيين كان في هذا القرن على أشد حالاته، وهذه العداوة