مدارسه هنا وبالاختلاط بأهله وراء البحار بلا قيد ولا شرط، على حين كان غيرهم ولا يزالون يأخذونها ببعض الحذر والحيطة. ولبنان منذ عهد متطاول كانت علائقه بالغرب أكثر من غيره من أهل هذه الديار. والروح اللاتيني ترفرف عليه. يحمله إلى ربوعه الرهبان الموارنة من رومية وغيرهم من دعاة النصرانية والاستعمار. ولو مكنت طبيعة الجبل من إنشاء مدن كبرى فيه، لظهرت هذه الفروق على جليتها في أهله، كما تتجلى مثلاً في أهل المدن الداخلية.
لم يبرح الدروز يعدون في المحافظين على عادتهم القديمة وأخلاقهم العربية من إباء ووفاء وحسن عشرة وكرم وحسن وفادة، يعظمون رؤساءهم ولو كانوا في سن صغير جداً. والدروز، ما خلا الطبقة المتمدنة منهم التي تلبس السراويل والمعاطف والسترات والأقمصة الإفرنجية على الأساليب الغريبة، ما زال جمهورهم يلبس لباساً واحداً في جميع البلاد التي ينزلونها: عمائم بيضاء وقفاطين من الأقمشة الغليظة القطنية وأعبئة قصيرة مخططة وأحذية بلدية ساذجة. كأن
لباسهم لم يتبدل منذ حلو هذه الأرض، ونساؤهم محجبات قليلاً يسبلن على رؤوسهن شاشاً أبيض فإذا رأين غريباً أظهرن إحدى عينيهن فقط أي أن حجابهن الحجاب الشرعي.
كان أهل لبنان قبل حادثة سنة 1860 يقسمون إلى خاصة وعامة، فالخاصة هم الأمراء والمقدمون والمشايخ. والمشايخ على ثلاث طبقات، مشايخ الإقطاع، والمشايخ الذين يدلون إلى مشايخ الإقطاع بنسب، وكانوا يعرفون بمشايخ الطبق، ثم مشايخ الطبقة الثالثة. وتختلف مصطلحات هذه الطبقات باختلاف العصور، وكلامنا هذا يتناول الأخيرة منها التي ثبتت إلى ظهور الجبل بمظهر الاستقلال الداخلي بعد حادثة الستين. ولهم عادات راسخة في خطابهم وكتابهم ومجالسهم وأفراحهم وأتراحهم، أمست عندهم بمثابة القواعد العامة، وتختلف عن مجموع ما هو من نوعها في سائر الأقطار، والسر في ذلك أن لبنان مدين بظهوره بمظهر المنعزل المستقل منذ عهد المماليك والعثمانيين لأمراء كانوا يتلون جباية الجبل على سبيل الإقطاع مقابل مال يؤدونه، وهم ينصرفون إلى توظيف طبقات الناس، وتصنيف أهلها على