ولا ينكر أن مادة البناء قد تختلف في بلد عن آخر. وقد كان الاعتماد في تلك القرون على الحجر الصلد، وفي دمشق عدة مقالع جميلة منوعة منه كما في حلب، ولم يكثر الآجر والطوب والخشب إلا في القرون الحديثة، ولذلك لم تخرب المدارس الدمشقية لعدم متانة في بنائها، فإن المثلة الظاهرة منها إلى اليوم لا تجعلها تختلف في شيء عن مدارس حلب. ولكن القائمين على هذه المدارس في هذه المدينة كانوا يعتدلون في العبث بها، ومتانة الأخلاق من جملة ما امتاز به الحلبيون، يضاف إليها حب الاحتفاظ بتراث الأجداد على صورة كانت ظاهرة في قرون الارتقاء، كامنة في عصور الشقاء والرجوع إلى الوراء.
والناظر إلى مدارس دمشق وحلب وهي لا تقل عن ثلاثمائة مدرسة، منها زهاء مائتين في دمشق يدرك أنها من عمل السلاطين والعمال وقليل من التجار وأهل الخير. وكان منهم من يتوخى منها أن تكون توليتها لبنية من بعده ليعيشوا منها إذا
صودرت أملاكهم. بنى قليل من التجار المدارس لأن الشعب كان يفنى في أغلب العصور في كبرائه، فلم يكن شأن في مظاهر النعمة والغبطة مدة قرون لغير أرباب الدولة أو من كان يعد في جملتهم، وكان الناس يحاذرون أن تنشأ لهم شهرة في الثروة، والثروة تتجلى في الدار والفرش والدابة واللباس، وفي بذل المال فقامة دور العلم وإيواء اليتامى والمحاويج، فكانوا يتظاهرون بالفقر لينجوا من مخالب العمال.
وقل أن رأينا جماعة اتفقوا على إقامة عمل من هذا القبيل يفتخر به اللهم إلا قليلاً من المساجد، ولو فعلوا لأمنت أعمال الجماعات من اعتداء المعتدين اكثر من عمل الأفراد، ولما استصفت واستحل هدمها، ولا غير خططها ومعالمها من لا يخافون الله ولا عبادة، ولجاءت ممثلة للعظمة الحقيقية في الأمة، على نحو ما قامت البيع والأديار والمدارس في الغرب، بإرشاد رجال الدين من كرادلة وأساقفة وقساوسة، فكانوا يجمعون قليلاً من صدقات الملوك والأغنياء والفرسان والشعب، فيجيء مجموعها عظيماً يدار بأيدي هيأة منظمة على كل حال، ويختطون خطة لا يخرج عنها الخلف إلا قليلاً،
للثر القديم من الموقع في النفس مال ليس للثر الحديث، فإن الأول