ورد بهما السمع فنؤمن بهما، ولا نقول كيف يكون؟! بل الواجب الإيمان به والتسليم ومثلهما وجود الموازين والصراط في يوم القيامة ممكن ورد به السمع نؤمن به، وكوننا لا نتوصل إليه بحواسنا، فهذا أمر لا يعنينا، لكن هل هذا مستحيل؟ لا، فإذا كان مستحيل هنا مجال البحث وهل تأتي الشريعة بما تحيله العقول، لا يمكن أن يتعارض معقول مع منقول، إذا تعارضا فالآفة في أحدهما، إما في النقل فلم يصح، وإما في العقل فليس بصريح ولا سديد فلا يتعارض نقل وعقل هذا شرع الله وهذا خلقه وليس في خلقه من تفاوت وليس في شرعه من تضارب (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) .
وقد ألف الإمام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في عشر مجلدات يدور حول هذا الموضوع سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فلا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، هذا الكتاب لو وزن ذهبا لكان أغلى من وزنه ذهباً، ويسمى (درء تعارض العقل والنقل) .
ولذلك قال أئمتنا: لا تأتي الشرائع بما تحيله العقول لكن تأتي بما تحار فيه العقول، وشتان ما بين الحيرة والإحالة، فالإحالة لا يمكن أن تقع، أما الحيرة فموجودة فيما تشاهده، فكيف بما لا تشاهده؟ لسانك ينطق، وهو قطعة لحم فهذا يحير العقل أم لا؟ لكن الإنسان من غلظ كبده، وتبلد شعوره وإحساسه، ما يقع حسه عليه باستمرار يغفل عن الحكمة فيه ولا يعتبر في شأنه والله يقول: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، كم من لسان يتكلم، فهذا يحار فيه العقل أم يحيله العقل؟ هذه حيرة تحير، فكيف تكلم هنا العضو من الإنسان فهذه حيرة مقصودة من الشارع، كما قلنا تنطق بلحم وتبصر بشحم وتسمع بعظم، كيف هذا؟ (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، وهذا الخلق الذي هو في أحسن تقويم هذا مما يحار العقل فيه ولا يحيله لأنه مشاهد أمامنا، ولكن من أي شيء؟ خلق من ماء مهين كما قال ربنا جل وعلا.