خطبة المسجد النبوي - 18 محرم 1432 - خطورة الرشوة - الشيخ حسين آل الشيخ
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أحلَّ لعباده الطيبات، وحرَّم عليهم الخبائث والمُوبِقات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرض والسماوات، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالرحمات، عليه من ربه أكملُ السلام وأفضل الصلوات.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا - فهي أصلُ كل الخيرات.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أكلُ الحرام سببٌ للشقاء والعناء، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل لحمٍ نَبَتَ من سُحتٍ فالنار أولَى به».
ومما جاء فيه النهي الأكيد والزجرُ الشديد: جريمةُ الرِّشوة أخذًا وإعطاءً وتوسُّطًا، يقول ربُّنا - جل وعلا -: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 188]، ويقول - جل وعلا - في شأن اليهود الذين لهم في الدنيا الخِزيُ المبين، وفي الآخرة العذابُ المُهين: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 42]، ويقول عنهم: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة: 62].
قال عمر - رضي الله عنه -: "بابان من السُّحْت يأكلهما الناس: الرَّشا ومهرُ الزانية".
فالرِّشوة - يا عباد الله - مغضبةٌ للرب، مجلبةٌ للعذاب، في الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمُرتشي والرائش.
وروى الطبراني بسندٍ جيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الراشي والمُرتشي في النار».
فيا أيها المسلم:
احذر أشد الحذر من الرِّشوة فهي من أكبر الذنوب، وأعظم الجرائم، ولذا عدَّ أهل العلم الرِّشوةَ كبيرةً من كبائر الذنوب لما جاء فيها من النصوص الشرعية الصريحة.
أمة الإسلام:
الرِّشوة داءٌ وَبيل، ومرضٌ خطير، تحلُّ بسببها من الشرور بالبلاد ما لا يُحصَى، ومن الأضرار بالعباد ما لا يُستقصَى، فما وقع فيها امرؤٌ إلا ومُحِقَت منه البركة في صحته وفي وقته ورزقه وعياله وعمره، وما تدنَّس بها أحدٌ إلا وحُجِبَت دعوتُه، وذهبَت مروءتُه، وفسَدَت أخلاقُه، ونُزِع حياؤه، وساء مَنبَتُه.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى يقول: «كل لحمٍ نَبَتَ من سُحْتٍ فالنار أَوْلَى به». قيل: ما السُّحْتُ يا رسول الله؟ قال: «الرِّشْوة في الحكم»؛ صحَّحه جماعةٌ من المُحقِّقين.
أيها المسلمون:
حقيقةُ الرِّشوة: كل ما يدفعه المرء من مالٍ ونحوه لمن تولَّى عملاً من أعمال المسلمين لتوصَّل به المُعطِي إلا ما لا يحِلُّ له.
ومن أعظم أنواعها: ما يُعطَى لإبطال حقٍّ، أو إحقاق باطلٍ، أو لظلمِ أحد.
ومن الرِّشوة: ما يأخذه المُوظَّف من أهل المصالح ليُسهِّل لهم حاجاتهم التي يجب عليه قضاؤها بدون دفع هذا المال، فمن استغلَّ وظيفته ليُساوِم الناس على إنهاء مصالحهم التي لا تنتهي إلا من قِبَل وظيفته فهو ملعونٌ على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فليتقِ الله من وقع في ذلك قبل أن يفجأه الموت، فلا ينفعه - حينئذٍ - مالٌ ولا بنون؛ فمن مُقرَّرات دين الإسلام: أن هدايا العُمَّال غُلول، والمراد بالعُمَّال: كل من تولَّى عملاً للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوَّابه ومُوظَّفيه أيًّا كانت مراتبهم.
ومن صور الرِّشوة - يا عباد الله -: من رَشَا ليُعطَى ما ليس له ولو كان مما تعود مُلكيَّته للمال العام، أو ليدفع حقًّا قد لزِمَه، أو رَشا ليُفضَّل على غيره من المُسلمين، أو يُقدَّم على سواه من المُستحقِّين في وظيفةٍ ونحوها.
أيها المسلم:
الرِّشوة مُحرَّمةٌ بأي صورةٍ كانت، وبأي اسمٍ سُمِّيَت، هديةٌ، أو مكافأةٌ، أو كرامة، فالأسماء في شريعة الإسلام لا تُغيِّر من الحقائق شيئًا، فالعبرة للحقائق والمعاني لا للألفاظ والمباني.
روى البخاري ومسلم عن أبي حميدٍ الساعدي - رضي الله عنه - قال: استعملَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأَزْد، فلما قدِمَ قال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فلما علِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قام خطيبًا على المنبر، فحمِدَ الله وأثنى عليه، وقال: «ما بالُ عاملٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدِيَ إليَّ، أفلا قعَدَ في بيت أبيه أو أُمِّه حتى ينظُر أيُهدَى إليه أم لا؟! والذي نفسي بيده؛ لا ينالُ أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحملُه على عُنقه .. » الحديث.
وفي "سنن البيهقي" قوله - صلى الله عليه وسلم -: «هدايا العُمَّال غُلول».
قواعد لا تقبل التأويل، وهي تأصيلٌ لمبدأ: من أين لكَ هذا؟
ذكر ابنُ كثيرٍ في "تأريخه" أن جيش المسلمين لما ظفَروا بالنصر على إقليم تركستان وغنِموا شيئًا عظيمًا، أرسَلوا مع البُشرى بالفتح هدايا لعُمر - رضي الله عنه -، فأبَى أن يقبَلَها، وأمر ببيعها وجعلها في بيت مال المسلمين.
وفي قصة عبد الله بن رواحة لما بعثَه النبي - صلى الله عليه وسلم - خالصًا على يهود خيبر، فجمعوا له حُليًّا من حُلِيِّ نسائهم، فقال: إنكم من أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيفَ عليكم، أما ما عرضتُم من الرِّشوة فإنها سُحتٌ، وإنَّا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وفي مُعلَّقات البخاري الموصولة عند غيره: ما جاء أن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - اشتهى التفاح، فلم يجدوا في بيته ولا ما يشتري به، فخرج وهو الخليفة آنذاك، فتلقَّاه غلمانٌ بأطباق التفاح، فتناول واحدةً فشمَّها ثم ردَّها إلى الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: "لا حاجة لي فيها"، فقيل له: ألم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية، فقال: "إنها لأولئك هدية، وإنها للعُمَّال بعده رِشْوة".
فما أحوجنا اليوم - وقد كثُر الفساد -، وعبَدَ بعضٌ الدرهمَ والدينارَ، ما أحوجنا للعمل بشريعة الإسلام، والتمسُّك بزواجر القرآن، وسنة سيد ولد عدنان - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أيها المسلمون:
من أعظم المُوبِقات التي يجب على المجتمع محاربتُها: استغلال السلطة الوظيفية، والتحايُل على النظام الذي سنَّه وليُّ الأمر، وليتقِ الله من يتعاونون على سلب الأموال العامة؛ من أراضٍ وعقاراتٍ وأموالٍ ومُقدَّرات عن طريق الرِّشوة أو غيرها، فهذه أموالٌ يجب على كل مسلم الحفاظُ عليها وصيانتُها؛ فكيف بأخذ الرِّشوة على تفويتها وتضييعها والتفريط فيها وعدم القيام بما يجبُ فيها.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يُحذِّر كل من يتهاون في الأموال العامة للدولة الإسلامية، فيقول: «إن أقوامًا يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
وعند أبي داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس! من عمِلَ منكم لنا على عملٍ فكتَمَنا فيه خيطًا فما فوقه فهو غلٌّ يأتي به يوم القيامة».
أيها المسلمون:
إن الله - جل وعلا - أمرَكم بأمرٍ عظيم، ألا وهو: الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الآل والصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم اخذُل أعداءَك وأعداء الدين، اللهم اخذُل أعداء المسلمين، اللهم اخذُل أعداء المسلمين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين.
اللهم من أراد هذا الدين بسوءٍ فأشغِله في نفسه، واجعل تدميرَه في تدبيره يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالنا بالإسلام، اللهم أصلِح أحوالنا بالإسلام، اللهم أصلِح أحوالنا بالإسلام، اللهم اجعلنا عبادًا متقين، اللهم اجعلنا لأوامرك مُحافظين يا أكرم الأكرمين، اللهم طهِّر أموالنا من الربا ومن الرِّشوة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم طهِّر مجتمعنا من المُوبِقات والخبائث يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجعلنا إخوةً مُتحابِّين مُتعاونين على الخير والتقوى يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم أتمَّ عليه نعمة الصحة والعافية، ورُدَّه إلى البلاد سالمًا غانمًا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما تحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعمل بالإسلام، اللهم وفِّق جميع ولاة الأمر للعمل بالإسلام، اللهم وفِّق جميعَ ولاة الأمور في كل مكان للعمل بسنة سيد ولد عدنان - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم أظهِر أنوار السنة في كل مكان، اللهم أظهِر أنوار السنة المحمدية في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل عامَنا هذا عامَ خيرٍ ومسرَّةٍ على الإسلام والمسلمين.
اللهم إنك غنيٌ حميدٌ، اللهم إنك غنيٌ حميدٌ، اللهم أنزِل علينا الغيث، اللهم أنزِل علينا الغيث، اللهم ارحمنا بالغيث، اللهم ارحمنا بالغيث، ربنا لا تُؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، ربنا لا تُؤاخِذنا بذنوبنا، ربنا لا تُؤاخِذنا بذنوبنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم اسقِنا واسقِ ديار المسلمين، اللهم اسقِنا واسقِ ديار المسلمين.
عباد الله:
اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً.