قال تعالى: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
هذا الإعلان العام، بهذا الإيقاع العالي يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة. إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمشركين في الجزيرة. والإعلان ببراءة اللّه وبراءة رسوله من المشركين، يحدد موقف كل مسلم ويوقع إيقاعا عميقا عنيفا على قلب كل مسلم، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد! ثم تأتي بعد الإعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الإعلان: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» ..
فهذا بيان للمهلة التي أجل اللّه المشركين إليها: أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم، ويعدّلون أوضاعهم .. آمنين .. لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم. حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وعند أول توقع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك وأن الروم سيأخذونهم أسرى! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون! ومتى كان ذلك؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا ..
وفي أي عصر تاريخي؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانونا إلا قانون الغابة ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة! .. ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان .. ذلك أنه منهج اللّه الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه. فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير - بتأثيره - بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدما من تطور وتغير.