والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق. فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويرخي ريشه في وداعة! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على اللّه السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر. وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وموقفه كذلك منهم، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم يقاتله وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية، ولا للدولة المسلمة. وقد أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يترك هذا الفريق، وأن يقبل مهادنته ومسالمته (وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد، أو كان له عهد غير موقت، مدة أربعة أشهر، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه) ومن ثم فهو ليس حكما نهائيا على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجردا عن هذه الملابسات، ومجردا كذلك عن النصوص التالية له في الزمن، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه. فقد عمل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ..
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائيا ودائما ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية .. ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ولم تكن أحكام الجزية موجودة. والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي، أن يقال: إن هذا الحكم ليس نهائيا وأنه عدل أخيرا بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة (التوبة) والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام: إما محاربين يحاربون. وإما مسلمين تحكمهم شريعة اللّه. وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا .. وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد