ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان. «لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس .. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية».
«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.