والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون. وقيل للرسول - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» .. وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عند ما أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم: «قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .. ليعلموا أولا أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون، وأنهم موتى، وأن اللّه لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة اللّه في الهدى والضلال كما أسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم!
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني .. إنه ليس خاصا بزمن، ولا محصورا في حادث، ولا مقيدا باقتراح معين. فالزمن يتغير، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى. وأصحاب الدعوة إلى دين اللّه ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر .. إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة «نظرية مذهبية» على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة، التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات! .. وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضا - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بالإسلام (لأن أهل هذه الجاهلية يقولون: إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة!) وتنظم لهم هذه الأوضاع بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة اللّه .. وكلها محاولات