هذا المستوي من الوعي والفكر والنظر والمعرفة. لقد كانوا يسيرون في الأرض، ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش، وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي ..
أما أن يسيروا وفق منهج معرفي تربوي .. فهذا كان جديدا عليهم. وكان هذا المنهج الجديد يأخذهم به وهو يأخذ بأيديهم من سفح الجاهلية، في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة التي بلغوا إليها في النهاية.
ولقد كان تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذه التي كان القرآن يوجه إليها العرب ووفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها - بإذن اللّه - ويستطيع الناس ملاحظتها وبناء تصوراتهم للمقدمات والنتائج عليها ومعرفة مراحلها وأطوارها .. كان هذا المنهج برمته في تفسير التاريخ شيئا جديدا على العقل البشري كله في ذلك الزمان. إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدون من الأخبار، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس لا يربط بينها منهج تحليلي أو تكويني يحدد الترابط بين الأحداث، كما يحدد الترابط بين المقدمات والنتائج، وبين المراحل والأطوار .. فجاء المنهج القرآني ينقل البشرية إلى هذا الأفق ويشرع لهم منهج النظر في أحداث التاريخ الإنساني .. وهذا المنهج ليس مرحلة في طرائق الفكر والمعرفة. إنما هو «المنهج» .. هو الذي يملك وحده إعطاء التفسير الصحيح للتاريخ الإنساني (?).
والذين يأخذهم الدهش والعجب للنقلة الهائلة التي انتقل إليها العرب في خلال ربع قرن من الزمان على عهد الرسالة المحمدية، وهي فترة لا تكفي إطلاقا لحدوث تطور فجائي في الأوضاع الاقتصادية، سيرتفع عنهم الدهش ويزول العجب، لو أنهم حولوا انتباههم من البحث في العوامل الاقتصادية ليبحثوا عن السر في هذا المنهج الرباني الجديد، الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند اللّه العليم الخبير .. ففي هذا المنهج تكمن المعجزة، وفي هذا المنهج يكمن السر الذي يبحثون عنه طويلا عند الإله الزائف الذي أقامته المادية حديثا .. إله الاقتصاد ..