ولم يشأ اللّه أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا .. إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص، وفق حجمه وشكله وملابساته ..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات حياة .. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة اللّه وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه .. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له اللّه ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة .. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض، تواجه مستقبلا غير موجود ..
واللّه يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده .. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا للّه، ولا يتلقوا الشرائع إلا من اللّه. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة: لا إله إلا اللّه بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية للّه في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذا الحق لأنفسهم .. إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم .. ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة .. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة ..