كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى. القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات ..
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم اللّه أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان، التي قدر اللّه لها أن يقوم هذا الدين عليها وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين اللّه، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما .. لتقرير هذه العقيدة ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها ..
لقد شاءت حكمة اللّه أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة.
وأن يبدأ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: «إله» ومعنى: «لا إله إلا الله» .. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا .. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى اللّه .. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة .. السلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن: «لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه .. ولم يكن يغيب عن العرب