ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا فحسب. ولكنه كان اكتساحا عقيديا. ثقافيا. حضاريا كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي - من غير إكراه - عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها .. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديما أو حديثا! لقد كان تفوقا «إنسانيا» كاملا. تفوقا في كل خصائص «الإنسانية» ومقوماتها. كان ميلادا آخر للإنسان.
ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته وترك عليها طابعه الخاص وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والأشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات.
وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية،بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر «اللغة العربية».فاللغة العربية كانت قائمة ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض - قبل الإسلام - ومن ثم سميتها «اللغة الإسلامية» فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي «الإسلام» قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها - لا بلغاتها الأصلية - ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة - غير اللغة الأم - لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات .. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا ومن ملاصقة الفطرة ثانيا بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة. ومن