فسبحان من أسرى بها في ليل نقسها إلى المحل الأقصى، وحباها بالفضل الذي لا يحصى، وأنبت دوحتها في رياض الفصاحة، ونمق حدائقها التي لو فتح النرجس عينه في عينها لنسب إلى الوقاحة. فتبارك الذي جعل في سماء دوحته لشمس بلاغته بروجًا، وأعلى هممه التي لا ترضى الشهب جيادًا والأهلة سروجًا، حتى أقام يراع قلمه لسوق الأدب قصبه، وشاد من قصائده كل بيت إذا مر الحاسد ببابه قبل العتبة، وسارت كالسبعة السيارة مصنفاته، وعلت من قصره المشيد بسينات سطوره شرفاته، وفديت بالمباسم والقدود ميماته وألفاته، وزهت أمداحه المؤيدية فأصبت بيوته المرفوعة ذات العماد، وراقت محاسنها التي لم يخلق مثلها في البلاد، وفضحت لسهلها الممتنع أدباء العصر الذين جابوا الصخر بالواد. "ومنها": طالما سرح الناظر في بستانها منظره، ورام ابن سكرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتي فوجدوها مسكره، وعلم المتنبي أن هذا خاتم الأدباء لا محالة، والمترسل الذي نهض دونه بأعباء كل رسالة، وأقام بتقديمها على غيرها براهين الاحتجاج، وقال الملحي عندما قابل بحرها الحلو ببحره {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} 1.
ومن ذلك ما نقلته من خط الصاحب فخر الدين بن مكانس، تغمده الله برحمته "وهو": ورد علينا شخص من أهل القيروان ضرير، يسمى عبد الله الزغبي يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي عن المعاني، فتردد إلَيَّ في مجالس متفرقة، ثم بلغني أنه وشى إلى صاحبنا الشيخ زين الدين بن أبي بكر العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف، أني اهتضمت جانبه، وانتقصته وغضيت منه بالنسبة إلى الأدب، وأنه يستعين بكلام غيره كثيرًا فتأذى من ذلك. وتأذيت من كذب الناقل، فكتبت: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 2 بلغني، بلغ الله سيدنا ومولانا الإمام العالم العلامة الأديب الشاعر الناظم الناثر المحقق الأمة الكاتب الحجة زين الدنيا والدين هرة عين الكرام والكاتبين، أقصى ما ينتهي إليه تنافس المتنافس، وتبتهج به صدور الأولياء والرؤساء والمجالس، ولا زال زينة يحلى به العاطل، ويظل تحت جناح أدبه القائل، من غيبة ذلك الضرير، ما لا خشي الله فيه بظهر الغيب، ونقل إلى المسامع الكريمة ما لا يحتاج للاعتذار عنه لما فيه من الريب، ولكن لا غناء لسيف ذهن المملوك الكليل من التنصل، ولا بد من نهلة اعتذار على سبيل التعلل. وكان المملوك يترقب سببًا للمطارحة، فهذا المغتاب الآن صار عنده محمودًا، إذ كان السبب لحسن التوسل إلى صناعة الترسل. "ومنها" فلو اختلف الأدباء على إمام لأهل هذه