وقال ابن رشيق، في العمدة: المبالغة: بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن في وصف الشيء.
قلت: وعلى هذا التقرير، فجل القصد في المبالغة الإمكان والخروج عن المستحيل. والمذهب الصحيح فيها أنها ضرب من المحاسن، إذا بعدت عن الإغراق والغلو، وإن كان الإغراق والغلو ضربين من المحاسن ونوعين من أنواع البديع، فقد شرط علماؤه أن النوع لا يتجاوز حده بحيث يزول الإلتباس. ويعجبني من أمثلة المبالغة في المديح قول القائل.
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه1
فالمعنى تم للناظم لما انتهى في بيته إلى قوله: دجى الليل. ولكن زاد بما هو أبلغ وأبدع وأغرب في قوله: حتى نظم الجزع ثاقبه.
ومثله قول أبي الطيب المتنبي في وصف جواد
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
قال زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمّى "بتحرير التحبير": أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة، قول شاعر الحماسة، إذ بالغ في مدح ممدوحه بقوله:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكنَّ ما لا يستطاع شديد
فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله: وما فوق شكري للشكور مزيد، وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته، بأن قال في البيت الثاني: ولو كان مما يستطاع استطعته. ثم أخرج بقية البيت للمبالغة، مخرج المثل السائر، حيث قال: ولكنّ ما لا يستطاع شديد. ومن هنا قال أبو نواس:
لا تسدين إلِيّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفنا2
ومن معجز المبالغة، في القرآن العظيم، قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار} 3، فجعل كل واحد منهم أشد