وقد طال الشرح وخرجنا عما كنا فيه، من المناسبة المعنوية وحسن ختامها، بما أوردناه من كلام ابن رشيق القيرواني، والبيت الذي أوردته من هذا الموشح. وأما المناسبة اللفظية، وهي دون رتبة المعنوية، فهي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة، وغير تامة. فالتامة أن تكون الكلمات، مع الاتزان، مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة. فمن شواهد التامة قوله سبحانه وتعالى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} 1 ومن شواهده التامة في السنة الشريفة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، مما كان يرقي به الحسنين2، عليهما السلام: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، ولم يقل عليه السلام: ملمة، وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية. ومن أمثلة المناسبتين، الناقصة والتامة، قول أبي تمام حبيب بن أوس:
مها الوحش إلا أن هاتا أونس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل3
فناسب بين مها وقنا مناسبة تامة، وبين الوحش والخط، وأوانس وذوابل، مناسبة غير تامة.
قال زكي الدين بن أبي الأصبع: هذا البيت من أفضل بيوت المناسبة، لما انضم إليه فيها من المحاسن، فإن فيه مع المناسبتين، التشبيه بغير أداة والمساواة والاستثناء، والطباق اللفظي وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين، فأما المناسبة فيه فقد عرفت، وأما التشبيه ففي قوله: مها وقنا، فإن التقدير: كمها، وكقنا، وحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به، وأما الاستثناء البديعي ففي قوله: إلا أن هاتا أوانس، وقوله: إلا أن تلك ذوابل، ليثبت للموصوفات التأنيس، وينفي عنهن النفار والتوحش، وكذلك فعل في الاستثناء الثاني، فإنه أثبت لهن اللين ونفى عنهن اليبس والصلاة. وأما المطابقة، ففي قوله: الوحش وأوانس، وهاتا وتلك، فإن هاتا للقريب وتلك للبعيد، وأما المساواة فلفظ البيت لا يفضل عن معناه ولا يقصر عنه. وأما الائتلاف، فلكون ألفاظه من واد واحد، متوسطة بين الغرابة والاستعمال، وكل لفظة منها لا ئقة بمعناها لا يكاد يصلح موضعها غيرها. وأما التميكن فاستقررا قافية البيت في موضعها وعدم نفارها عن محلها انتهى الكلام على المناسبة اللفظية والمعنوية، وتقرير التامة والناقصة من اللفظية. فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، يقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
مؤيد العزم والأبطال في قلق ... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم