وأما براعة بديعتي فإنها، ببركة ممدوحها صلى الله عليه وسلم، نور هذه المطالع وقبلة هذا الكلام الجامع؛ فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء، بالشرط المقرر لكل منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنفت1 بأقراط غزلها الأسماع، مع حشمة الألفاظ وعذوبتها وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة وبديعية صفي الدين غزلها لا ينكر، غير أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي مورى به من جنس الغزل، ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة. وأما الشيخ عز الدين الموصلي، فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتًا، وقد أشرت إلى ذلك في الخطبة بقولي: وهي البديعية التي هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي مقيدًا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال، وسميتها تقديم أبي بكر عالمًا أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال.
ومن أحسن إشارات براعتي التي تشعر أنها صدر مديح نبوي تشبيبي، بعرب ذي سلم، وخطابي لهم بأن لي في مدائحهم براعة تستهل الدمع، وكأنني وعدتهم بشيء لابد من القيام به، وهذا حسبما أراده ابن أبي الأصبع بقوله: براعة الاستهلال هي ابتداء الناظم بمعنى ما يريد تكميله.
براعة الاستهلال في النثر:
انتهى ما أوردته هنا من البراعات البارعة نظمًا، وأما براعات النثر فإنها مثلها، إن لم تكن براعة الخطبة أو الرسالة أو صدر الكتاب المصنف دالة على غرض المنشئ وإلا فليست ببراعة استهلال.
وقد رأيت غالب البديعيين قد اكتفوا عند استشهادهم على براعة الاستهلال في النثر، بقول الصاحب عمرو بن مسعدة، كاتب المأمون، فإنه امتحن أن يكتب للخليفة يخبره أن بقرة ولدت عجلًا وجهه كوجه الإنسان، فكتب: الحمد الله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام. ورأيت الشيخ صفي الدين الحلي، في شرح بديعيته، قد ألقى عند الاستشهاد بها عصا التسيار، واحتجبت عنه في هذا الأفق الشموس والأقمار، أين هو من علو مقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وقد كتب عن السلطان الملك الظاهر، إلى الأمير سنقر الفارقاني، جوابًا عن مطالعته بفتح سوس من بلاد السودان، واستهل بقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 2 الله