كذلك سمي اقتضابًا، وهو أن ينتقل الشاعر من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما، كأنه استهل كلامًا آخر. وعلى هذه الطريقة مشى غالب العرب، وغالب المخضرمين وكثير من شعراء المولدين، فمن ذلك قول البحتري في قصيد، وقد جرى في ميادين غزلها إلى أن قال من غير ارتباط:
وردنا إلى الفتح بين خاقان إنه ... أعم ندى فيكم وأيسر مطلبا
وهذه النبذة التي أبرزتها هنا، من نظم المتقدمين في حسن التخلص، عزيزة الوجود، فإنها ما تيسرت إلا بعد الجهد في جمعها. وهذا النوع البديعي ما اعتنى به غير حذاق المتأخرين، وما نسجوه جميعه إلا على المنوال المذكور. ولعمري إنها طريقة بديعة، ونوع من السحر يدل على رسوخ القدم في البلاغة. وتمكن الذهن من البراعة، وإن لم يكن كذلك لم يعد من أنواع البديع. والقرائح تختلف فيه وتتفاوت، وقد عنَّ لي أن أنبه على قبح المخالص التي لا تعد من أنواع البديع، لينفتح ذهن المبتدئ في هذا الفن، فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي، وإن كانت له المخالص الفائقة:
غدا بك كل خلو مستهاما ... وأصبح مستور خليعًا
أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيرًا وابن إبراهيم ريعا1
انظر ما أبرد هذا الخلص وأشد تعسفه، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على غير ممكن، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبيرًا وأن يخاف ممدوحه، فجعل خوف الممدوح نظير جر النمل لثبير ليقرر أن كلًا منهما من المستحيلات، ومن تخاليصه القبيحة أيضًا قوله:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلًا
وسبب قبح هذ المخلص، كونه جعل ممدوحه ساعيًا بينه وبين محبوبته في الوصال، ولا خفاء في دنو هذه المرتبة، وقد سبقه أبو نواس إلى ذلك، ولكنه أقل شفاعة، مع أن الكل قبيح، حيث قال:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
وقد سبقهما إلى ذلك قيس بن ذريح، حين طلق لبني وتزوَّجت غيره فندم على ذلك وشبب بها في كل معنى، فرحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها، وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه: