ولقد أحسن القائل في شكوى الزمان، بقوله:

ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم1

وأقسم ما قصرت فيم يزيدني ... علوًّا ولكن عند من أتقدم

وهذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك.

وأما شواهد القسم الثاني، وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد، مثل قول زهير:

أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله2

ومتى لم يكن في الاستدراك نكتة زائدة عن معنى الاستدراك، لتدخله في أنواع البديع، وإلا فلا يعد بديعًا، ولا يخفى على الذوق السليم ما في بيت زهير من الزيادة على معنى الاستدراك، بقوله: ولكنه قد يهلك المال نائله. فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ماله موفور، وتلك صفة ذم3، فاستدرك ما يزيل هذا الاحتمال ويخلص الكلام للمدح المحض. وإذا تأمل الذائق بيت الأرجاني، متع ذوقه بحلاوة الأدب من قوله:

ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما

فالنكتة الزائدة على معنى الاستدراك لا تخفى إلا على من حجب عن ذوق هذا العلم، وهو من شواهد القسم الأول فإنه قرر ما أخبرت به من قولها أنت عندي في الهوى مثل عيني، ثم أكد بقوله: صدقت، ثم نكت بالزيادة على معنى الاستدراك، التنكيت الذي يتطفل على النسيم على رقته، ولولاه ما سكن هذا النوع بيتًا بديعيًّا، ولا تأهل بعد غربته. وأصحاب البديعيات على هذا المنوال نسجوا، وأداروا كئوس السلافة على أهل الأذواق، ومازجوها بلطف مزاجهم فامتزجوا. والذي أقوله: إن الشيخ صفي الدين حلا في هذا المنهل الصافي مورده، وعلا في هذا السلك البديعي منظمه ومنضده وبيته:

رجوت أن يرجعوا يومًا وقد رجعوا ... عند العتاب ولكن عن وفا ذممي

فإنه قرر ما أخبر به قبل الاستدراك، وأكده بقوله: وقد رجعوا، وفي قوله: عند العتاب، تكميل بديعي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015