ولما نقلني والدي من أصفهان الى بغداد حين نبا - بعد النّكبة - بِنا الوطنُ، وضاق العطَن، ولم نجد الأمن والسّلامة، واليُمن والكَرامة، إلا في ظل الدار العزيزة النبويّة الإمامية المقتفوية، فسكنّا مدينة السلام، واتّخذناها دار المُقام، وذلك في سنة أربع وثلاثين وخمس مئة، وقد بلغت سنّي خمسَ عشرة سنة - وكان هذا ابن أفلح يجتمع بوالدي، ويقصِدُ نحوَهُ، ويبثّه شجْوَه.
وتوفّي بعد ذلك بسنتين أو ثلاث.
وطالعتُ ما جمع من شعره، وهو قليل؛ لأن الخليفة نفّذ وأخذ من بيته أشعاره كلها. وكتبت منه قصيدتين في مدح عمّي، فأثبتُّهما، ولم أُلْغِ منهما شيئاً. إحداهما ما مدحه به وأنشده بأصفهان:
هاتيك دجلةُ رِدْ وهذا النّيلُ ... ما بعدَ ذينِ لحائمٍ تعليلُ
إن كان برْدُ الماءِ عندَك ناقعاً ... حرَّ الجَوى لا الأشنبُ المعسول
عجباً لشأنك تدّعي ظمأً وفي ... جفْنيْكَ من سيلِ الجُفونِ سُيولُ
وتنحّ من لفْح الهَجيرِ وحرِّه ... وحشاكَ فيه لوعةٌ وغَليلُ
ما هذه آياتُ من عرَفَ الهوى ... وشجاه رَقراقُ الحياء أسيلُ
لا تكذبنّ فما بهذا عندنا ... أهلَ الصّبابةِ يُعرفُ المتبولُ
خلِّ الغرامَ لأهله فهمُُ به ... أولى لهنّكَ في الغرامِ دخيلُ
أنسيتَني يومَ العقيق ونحنُ في ... واديهِ بين السَّرْحتيْن حُلولُ
والحيُّ يهمِزُ بالرحيل ومُهجتي ... جزَعاً لمقترب الرّحيلِ تسيلُ
والوجدُ محتدمٌ وبين أضالعي ... قلبٌ يضِجُّ به الغرامُ عليلُ
وأقلُّ ما لاقيتُ من كُلَف الهوى ... بعدَ الصّبابةِ لائمٌ وعَذولُ
ألا اقتديتَ بحُوَّلٍ في وجدِه ... قد عارك الأشجانَ وهْوَ نحيلُ
أظننتَ أنّ العِشقَ سهلٌ بئس ما ... أوهمتهُ يا أيّها المخبولُ
يا أختَ سعدٍ قد سننتِ شريعةً ... ما سنّها في الأنبياءِ رسولُ
حلّلتِ سفكَ دمي ولم ينطِقْ به ... ذِكرٌ وتوْراةٌ ولا إنجيلُ
وقصرتِ أجفاني فما إن تلتقي ... وأطلتِ ليلي فالعَناءُ طويلُ
وقدحتِ ناراً في الحشا ومنعتِني ... إطفاءَها بالدّمعِ وهو هَطولُ
سمعاً لأمركِ ما استطعتُ وكلّ ما ... حمّلتِ من عِبْءِ الهوى محمولُ
قسماً بعصيان العذول فإنّه ... قسمٌ على حسن الوفاءِ دليلُ
إنّي عليكِ وإن صدَدْتِ لعاطفٌ ... ولكِ الغداةَ وإن قطعْتِ وَصولُ
يا صاحبيّ مضى الهوى لسبيله ... وأتى الصوابُ وقولُه المقبولُ
أبثثكما عُجَري فما ترَيانِه ... لأخيكما فالرّأيُ منه أفيلُ
طال الثّواءُ على المذلّة قانعاً ... بالدّون واستولى عليّ خُمولُ
وغدا يزاحمُ منكبي في موقف ال ... علياءِ وغدٌ أخرقٌ وجهولُ
في كلّ يوم يستفزّ سكينتي ... روعٌ يمَسُّ الحسَّ منه ذُهولُ
ممّن عهِدتُ إذا ذُكِرتُ فؤادَه ... من صدره فرَقاً يكادُ يزولُ
ما ذاك إلا أنّه لم يبقَ من ... هذا الأنام مسوّدٌ بُهْلولُ
يأوي إليه المستجيرُ فيغتدي ... نعمَ النّصيرُ وبأسُه المأمولُ
قالا: صهٍ هذا ابن حامدٍ الذي ... ما بعدَه لمؤمِّلٍ تأميلُ
يمّمْه تلقَ اليمّ يزخَرُ طامياً ... والليثَ يزأرُ هيبةً ويصولُ
وانزِلْ عليه تُنِخ بكِسْرِ فناءِ منْ ... ما ذمّ جيرتَهُ العشيَّ نزيلُ
إنّ امرءاً كفَل العزيزُ بنصره ... وغدا يسالمُ دهرَهُ لَذليلُ
نقص في الأصل
لا الصّبرُ ناصرُهُ إن ضامه كمَدٌ ... يومَ الرّحيل ولا السّلوانُ مُنجِدُه
فلم أطاع عذولاً ما يسهِّدُه ... إذا غفا كلُ طرْفٍ ما يسهِّدُهُ