نعوا والله باسق الأخلاق فلا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه وما أخلف، لقد سام الردى فيه حسنا ووسامة، وطوى بطيه نجدا وتهامة، فتعطل منه الندى والندي، وأثكل فيه الهدى والهدي، كم راع البدر ليلة إبداره، فروع العدو في عقر داره، وكم فل السيوف طول قراعه، ودل عليه الضيوف موقد النار ببفاعه، وتشوف إليه السرير والمنبر، وتصرف فيه الثناء المحبر، أي فتى، غدا له البحر ضريحا، واعتدى عليه الحين ماء وريحا، فتبدل من ظل علاء ومفاخر، إلى قعر طامي البحر زاخر، وعوض من صهوات الخيل، بلهوات اللجج والليل غريق حكى مقلتي في دمعها، وأصاب نفسي في سمعها، ومن حزني لا استسقى له الغمام فما له قبر تجوده، ولا ثرى تروى به تهائمه ونجوده، فقد آليت أن لا أودع الريح تحية، ولايورثني هبوبها أريحية، فهي التي أثارت من الموج حنقا، ومشت عليه خببا وعنقا، حتى أعادته كالكثبان، وأودعته فيه قضيب بان، فيا عجبا للبحر ختل شكله، وللدهر كيف حمل ثكله، ووا أسفا لزلال غاص في أجاج، ولسلسال فاض عليه بحر عجاج، وما كان إلا جوهرا آب إلى عنصهر، وغاب عن عين مبصره، لقد آن للحسام أن يغمد ويشام، وللحمام أن يبكيه بكل أراكة وبشام، وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام، وينحن فتى ما ذرت الشمس إلا ضر او نفع، ويبكين من لم يدع فقده للأنس المنتفع، صديق ما حمدت فيه الأيام حتى ذممتها، ولا ينبت به أركان المنى حتى هدمتها، ولو غير الحمام زحف إليه جيشه، أو سوى البحر رجف عليه ارتجاجه وطيشه، لشبا من شدته من يهيبه ليث الشرى، ويرهبه البطل الباسل إذا استشرى، من كل أروع إن عجل إليه المكروه ثبطه، أو جاءه الشر تأبطه، لكنه الموت لا ترده الصوارم ولا الأسل، ولا يفوته ذباب لفظ العسل.
سبق ذكره وقد أوردت من شعره البديع، وآثرت من فجره الصديع، ثم عثرت من رسائله، التي هي من دلائل فضائله، ما أثبته هاهنا، فمن ذلك رسالة كتبها إلى أبي الفتح ابن خاقان المقدم ذكره: سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، حلى بك وطنك، ولا خلا منك عطنك، كتبته والود على أولاه، والعهد بحلاه، ترف زهرة ذكراه، ويمج الري ثراه، منطويا على لذعة حرقة، ولوعة فرقة، أبيت بها بليل لا يندى جناحه، ولا يتنفس صباحه، فها أنا كلما تنسمت الريح أصيلا، وتنفست نفسا بليلا، أصانع البرحاء تنشقا، وأتنفس الصعداء تشوقا، فهل تجد على الشمال لفحة كما أجد على الجنوب نفحة، أم هل تحس لذلك الوهج ألما، كما أجد لهذا الأرج لمما، وحقك قسما، تشتمل على الإيمان كرما، إن في هذه اللواعج، ما يقتضي إنضاء النواعج، ويحمل على حزق، جيب الخرق، وجر ذيل، وبرد الليل، حتى أهبط أرض ذلك الفضل، فأغتبط وأرد مشرع ذلك النبل، فأتبرد، وعسى الله بلطفه أن ينظم هذا البرد، ويعيد ذلك الود، فيبرد الاحشاء، كيف شاء، بمنه. وإن كتابك الكريم وافاني فأنهى تحية، هزتني أريحية، هز المدامة تتمنى، والحمامة تتعنى، فلولا أن يقال صبا لالتزمت سطوره، ولثمت مسطوره، وماأنطقتني صبوة استفزتني، فهزتني، ولكن فضلة راح في كأس العلى تناولتها، فكلما شربت، طربت، فلوى توقع غمرات الشيب، لابتدرت شق الجيب، ثم صحت: واطرباه، وناديت: واحر قلباه، ووقفت من جملته على ما وقع موقع القطر، وحسبك ثلجا، وطلع طلوع هلال الفطر، وكفاك مبتهجا، وما أغرب فيما أعرب عنه من تفسير حالك، وتفصيل حلك وارتحالك، ولا غرو أن تجد بك الرواحل، وتتهاداك المراحل، فما للنجم أخيك من دار، ولا في غير الشرف من مدار، فحل أنى شئت وارتع، وطر حيث أحببت أوقع، فما انتضتك يد المغارب، إلا ماضي المضارب، ولا تعاطتك أقطار البلاد، إلا طيب الميلاد، فما صار أن نعق ببينك غراب، وخفق برحلك سراب، إذ لم يغض من فضلك اغتراب، ولا أخل بنصلك ضراب، لا زلت مخيما بمنزلة مجد يجتمع من اتساع، في ارتفاع وامتناع، بين إمرة بغدان، ومنعة غمدان، بحول الله ومنه.
وكتب أبو إسحاق ابن خافجة أيضاً إلى بعض الوزراء: