دخلت على القاضي الأجل مستهل المحرم سنة إحدى وسبعين في المخيم بمرج الصفر أهنيه بجديد العام العام الجدوى، وأستهديه الفوائد التي بها أحيا وأقوى، فوجدت بيده كتاباً لأبي القاسم المذكور إليه، والقاضي الفاضل يقضي بفضله ويثني عليه، فوقفت على رسالته وطالبته بكلمته، فأراني قصيدته، وأقراني فقرته، وقال إنه أفضل من بمصر نظماً ونثيراً. هذا وقد جمع من رسائله عشر مجلدات. فأما الرسالة فهي: قد جعل الله المجلس العالي الفاضلي الأسعدي زاده الله من اصطفائه أبكار المناقب وعونها، وواصل إلى جنابه حمولات المثوبات وظعونها، واستجاب من أوليائه في طول بقائه وهلاك أعدائه صالح الدعوات التي يدعونها خير ما ينادى قريباً ويناجى بعيداً، وأفضل منعمٍ يحقق وعداً ويخلف وعيداً، وعم الخلق جميعاً بنعمته، وشرف القلب بصواب حكمه وصوب حكمته، وألهج أقلامه بتوزيع إفضال المال والجاه، وقسمته، وخصه في إهداء الهدى بهديٍ أقربه على الساعين أبعده، وأثل له مجداً لا يتناهى مصعده، أو يكون فوق النجم مقعده. ولم يزل إقباله على المملوك يريه وجه الإقبال وسيماًن ويعيد عنده سموم اليأس بأرواح النجاح نسيماً، ولا يضيع جريه في ميدان اعتناق تنفيذ مرامه عنقاً ورسيما. وقد كان أكبر مولاه عن مكاتبة تليق بالأكابر، وتنحط أصاغر الخدام عن درجة المحافظ عليها المثابر، وسأل ابن حيون إحساناً إليه بذكر هذه الجملة في كتبه وإجمالاً، وأن يقلده بالإعراب عنه منة لا يسأم لها على مر الزمان احتمالاً. وحين أكدت مطالبه، وأحاطت بجوانبه دواعي الندم وجوالبه، وصار الإجلال وجلا، وعاد الإخلال خجلا، ثاب إليه من علم شرف خلق المولى وكرم طبعه، وتواضعه إقداراً للمعالي بحسن وضعه، ما حمله على نظم قصيد خدم بها مجلسه الكريم، مع تحققه أن لمدحه جادة جدٍ تعجز جلة الشعراء عن سلوكها، وتيقنه أن مناقبه لا تحتاج إلى المدائح إلا كحاجة عقود الجواهر إلى سلوكها، وضراعته في إجرائه في تقبلها على مألوف عادة الإحسان ومعروفها، واغتفار خطلها الذي كفارته ما يواصله هو وعائلته من أدعية صالحة للمولى بعدد حروفها. والمملوك مستمرٌ على عادته في ملازمة الخدمة والمواظبة عليها، وإدامة البكور إليها، مع ما يلحقه من النزلات التي تظلم مطالع محياه وغيرها من أمراض شاهدها اصفراراً محياه. والله تعالى يزيد في علو محل المولى المؤسس على التقى، ويجمل الدنيا بمفاخره الموفية على ناصع الجوهر المنتقى، ولا زال أفواج الرفاق لاقيةً إذا حطت بجنابه أفضل ملتقى.
وأما القصيدة فإنها تنيف على مائة بيت فأثبت منها ما عقدت خنصر الاختيار عليه، ومطلعها:
تالله ما عاشق الدُّمَى عاقلْ ... كلاَّ ولا عاذلٌ له عادِلْ
ذا مُغْرَمٌ مُرْغَمٌ أخو حُرَقٍ ... وذا مطيلٌ ما عنده طائل
لم يخشَ من ناقدٍ وقد جاء بالنُّكْسِ ... إلى ناقِهِ الهوى ناقل
ومنها:
غانيةٌ عن حليِّ غانيةٍ ... بحسنِ عاطٍ من جيدها عاطل
وأسمرٍ غادرتْ لدونَتُهُ ... ماءً لها فيه جارياً جائل
سنانُه طَرْفُهُ ومن عَجَبٍ ... سيفٌ علا لهذماً على ذابل!
أهلَّه ضارباً وأَعملَ للطعن ... سواهُ من نهده عامل
ومنها:
وحالةُ المستهانِ أَنفعُ ما ... عاذَ به المستهامُ مِن عاذل
خبا سناهُ وخابَ مقصده ... أَيَّةُ حالٍ لخامدٍ خامل
ومنها في ذم الدنيا:
وزاد حُبُّ الهوى عليه فما ... ينفكُّ في هُوَّة الهوى نازل
يريد منها خفضاً فيرفعه ... مِن نَصْبِه للعَنَا بها فاعل
أَين من الدَّرِّ كف حالبها ... المكفوف منها بكُفَّةِ الحابل
يُظْهِرُ تكذيبُ سلْمِ باطِنِها ... عنوانَ عدوانِ خاثرٍ خاتل
أنصارُها عصبةُ التتابع في الجهلِ ... وأحزابُ طالبي الباطل
وما يَنِي مُذْكِراً بخطبتها ... حُكْمُ التناسي لحكمها الحائل
يكونُ منها أمرُ الولاءِ وما ... ثَمَّ لها عاضلٌ سوى الفاضِل