وأنا الآن موفٍ حق هذا القسم الرابع، بذكر ما أثبته من البدائع، ومورد كل ما يهتز له عطف السامع، ويتنزه فيه طرف الراتع، فانظم من درٍ ماشيت ولا تلم ببحره إن خشيت؛ فإن در البحر يجلبه من يلازم الغوص، ودر الفكر يحلبه من يداوم الفحص.
وقبل شروعي في ذكر أعيان مصر وأحاسنها، ومزايا فضائلها ومزاينها، أقدم ذكر من جميع أفاضل الدهر، وأماثل العصر، كالقطرة في تيار بحره، بل كالذرة في أنوار فجره، وهو:
المولى الأجل القاضي الفاضل الأسعد أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف أبي المجد علي بن الحسن بن الحسن بن أحمد
صاحب القران، القديم الأقران، وواحد الزمان، العظيم الشان، رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره. فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار. وهو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بآلائه، إن شاء أنشأ في يوم واحدٍ بل في ساعةٍ واحدة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة. أين قسٌّ عند فصاحته وأين قيسٌ في مقام حصافته، ومن حاتمٌ وعمرو في سماحته وحماسته. فضله بالإفضال حالٍ، ونجم قبوله في أفق الإقبال عالٍ، لا من في فعله، ولا مين في قوله، ولا خلف في وعده ولا بطء في رفده. الصادق الشيم، السابق بالكرم، ذو الوفاء والمروة، والصفاء والفتوة، والتقى والصلاح والندى والسماح. منشر رفات العلم وناشر راياته، وجالي غيابات الفضل وتالي آياته. وهو من أولياء الله الذين خصوا بكرامته، وأخلصوا لولايته، قد وفقه الله للخير كله. وفضل هذا العصر على الأعصار السالفة بفضله ونبله؛ فهو مع ما يتولاه من أشغال المملكة الشاغلة، ومهامه المستغرقة في العاجلة، لا يغفل عن الآجلة، ولا يفتر عن المواظبة على نوافل صلاته، وحفظ أوراده ووظائفه، وبث أصفاده وعوارفه، ويختم كل يوم ختمةً من القرآن المجيد، ويضيف إليه ما شاء من المزيد. وأنا أوثر أن أفرد بنظمه ونثره كتاباً فإنني أغار من ذكره مع الذين هم كالسها في فلك شمسه وذكائه، وكالثرى عند ثريا علمه وذكائه؛ فإنما تبدو النجوم إذا لم تبد الشمس حاجبها، ولا حجب نور الغزالة عند إشراقها كواكبها؛ ولأنه لا يؤثر أيضاً إثبات ذلك، فأنا متمثلٌ لأمره المطاع ملتزم له قانون الاتباع؛ واضعٌ أذني لإذنه قابضٌ يميني على يمنه، راكنٌ بأملي إلى ركنه، قاطنٌ برجائي في ظل منه، أقترض رضاه، ولا أحكم على ما يحكم به ويراه، ولا أقوم إلا حيث يقيمني، ولا أسوم إلا ما يسومني، ولا أعرف يداً ملكتني غير يده، ولا أتصدى إلا ما جعلني بصدده، وأسأل الله التوفيق للثبات على هذا السنن وانتهاج جدده.
وهو أحق ممدوحي بمدحي، وأقضاهم لحقه، وأسماهم في أفقه، وأولاهم بصدقه، وأهداهم إلى طرقه، ولي فيه مدائح منظومةٌ ومنثورة، ومقاصد معاهدها بفضله معمورة، وقصائد قلائدها على مجده موفورة. فمن ذلك من قصيدة كتبت بها إليه عند وصوله إلى الشام في الخدمة الملكية الناصرية سنة سبعين واتصالي به:
قد أُهْدِيَ الإِثراءُ في الإِيفاضِ لي ... مذ فاضَ لي بالرَّحْبِ بحرُ الفاضل
قد عاضَ لي مَلْقَاهُ من فقري غنىً ... ما زالَ صَرْفُ الدهر منه عاضِلي
كم من مُنىً ضَلَّتْ وعاودتِ الهدى ... بلقائه حتى غَلَبْتُ مناضلي
عاينتُ طَوْدَ سكينةٍ ورأيتُ شمسَ ... فضيلةٍ ووردت بَحْرَ فواضل
ولقيتُ سَحْبانَ البلاغةِ ساحباً ... ببيانه ثوبَ الفخارِ لوائل
أَبصرتُ قُسّاً في الفصاحةِ معجزاً ... فعرفتُ أني في فهاهةِ باقل
حلفُ الفصاحةِ والحصافةِ والسما ... حةِ والحماسةِ والتقى والنائل
بحرٌ من الفضلِ الغزيرِ خِضَمُّهُ ... طامي العُبابِ وما لَهُ من ساحلِ
ومنها:
في كفِه قلمٌ يُعَجِّلُ جَزْيُهُ ... ما كان من أجلٍ ورزقٍ آجل
يجري ولا جَرْيَ الحسام إذا مَضَى ... حَدَّاهُ بل جَرْيَ القضاءِ النازل