ومصر مربع الفضلاء، ومرتع النبلاء، ومطلع البدور، وموضع الصدور، وأهلها أذكياء أزكياء، يبعد من أقوالهم وأعمالهم العي والعياء، لاسيما في هذا الزمان المذهب، والوقت المهذب، بدولة مولانا الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، قامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين، ففي أيامه الزاهرة، ودولته القاهرة، أشرقت الأرض بنور ربها، وهبت الأرياح من مهبها، ورفعت معالم العدل والعلم، وخضعت دعائم الجهل والظلم، وأثبتت أمالي الآمال في دفاتر النجاح، وكتب أمان الأماني بمهارق الفلاح، واستدر جود الجود، واستقر طود الوجود، وزف هدي الهدى على خاطبي النصر، وحف ندي الندى بطالبي الوفر، واتضح الحق، واتضع الباطل، وعز العالم وذل الجاهل، وأفاض الأفاضل في الشكر، وراض الأماثل قرح القرائح في النظم والنثر، وعاد الرجاء مفتوح الرتاج، ممنوح النتاج، حالي التاج بيواقيت الفوز، علي السراج في مواقيت العز، أرج الآفاق بذائع البدائع، رائج الأسواق بضاع البضائع، بوجود المولى الفاضل، وجده المولى إلى الأفاضل، وكفى مصر فخراً سمو سناء فضله في ذراها، ودنو جنى أفضاله لذراها، فإنه ذو السؤدد الظاهر، والمحتد الطاهر، والسلف الكريم، والشرف الصميم، والعرف الزكي، والعرف الذكي، والفتوة الراجحة، والمروة الناجحة، والظن المخمر بالدين، واليقين المؤزر بالصدق المبين، والحق المتين، والبلاغة التي لم يبلغ إلى شأنها قسٌ والرأي الذي لم يهتد إلى سننه قيس، والبراعة التي نسخت شريعتها بالإعجاز شرائع الفصحاء، وبذخت صنعتها بالإحراز لبدائع البلغاء.
وهو الذي راش نبل نبلي، وأعاش شخص فضلي، وأقام جاه أملي بعد الخمول، وأنام عين وجلي عند الذهول، وثبت عرش حفظي، ونبت غرس حظي، ونشرني وقد كاد يطوى اسمي، وأنشرني وقد كرب يبلى رسمي، ورغبني في قصد مصر عند توجه مولانا الملك الناصر من دمشق إليها عائداً وحقق عندي أنه يكون لي مساعفاً مساعداً، فسرت في أول شهر ربيع الأول من دمشق في الخدمة الناصرية، ووصلت آخر الشهر إلى القاهرة الصلاحية، فقابل وفادتي بوافر رفادته، وموافاتي بوافي إفادته، ونوه بذكرى، ونبه على قدري، ونظم أمري، واغتنم شكري، وخفف ثقلي، ورادف نهلي وعلي. وحين ملكت مادة بره، سلكت جادة شكره، وصار حمدي الحر له مسترقاً، ونفسي المستعبدة لآمالها بنجح آماله قد صادفت عتقاً.
ومما نظمته في طريق مصر قصيدةٌ ذكرت فيها المنازل على ترتيبها، والشوق إلى دمشق وطيبها، ووصلتها بمدح الملك الناصر، وتلوى المولى الفاضل نعش جدها العاثر، وترويج حظها الكاسد، وسعرها القاصر، أولها
هجرتكمُ لا عن مَلاَلِ ولا غَدرِ ... ولكن لمقدورٍ أُتيحَ من الأَمْر
وما كنتُ أَدري أَن يُتَاحَ فراقكمْ ... ومن يعلمُ الأَمرَ المقدَّرَ أو يدري
وأَعلمُ أَني مخطىءٌ في فراقكم ... وعذريَ في ذنبي وذنبيَ في عذرِي
أَرى نُوَباً للدهر تُخْصَى وما أَرى ... أَشدَّ من الهجران في نُوَبِ الدهر
بعيني إلى لُقْيَا سواكمْ غَشاوَةٌ ... وسمعي إلى نجوى سواكمْ لَذُو وَقْر
وقلبي وصدري فارقاني لِبُعْدكمْ ... فلا صدرَ في قلبي ولا قلبَ في صدري
وإِني على العهدِ الذي تعهدونَهُ ... وسرى لكم سرى، وجهري لكم جهرِي
تجرعتُ صِرْفَ الهمِّ من كأْسِ شوقكمْ ... فها أَنا في صَحْوي نزيفٌ من السكر
وإنَّ زماناً ليس يَعْمُرُ موطِني ... بسكناكمُ فيه فليس من العمر
وأُقْسِمُ لو لم يَقْسِم البينُ بيننا ... جوى الهمِّ ما أمسيتُ مُنْقَسِمَ الفكر
أَسيرُ إِلى مصرٍ وقلبي أسيرُكُمْ ... ومن عَجَبٍ أَسْرِي وقلبيَ في أَسْرِ
أَخِلاَّيَِ قد شَطَّ المزارُ فأَرْسِلوا ... الخيالَ وزوروا في الكرى وارْبحُوا أَجْري
تذكرتُ أَحبابي بجلَّقَ بعد ما ... ترحلتُ والمشتاقُ يأْنَسُ بالذكر