وصل كتابه، فأما سلامته التي أخبرنا بها، وأرسل كتابه قاصداً ليقف على حقيقتها، فلم نستبعدها ولا تعجبنا منها، إذ لم يقتحم الحرب، ولا باشر الطعن والضرب، ولا لبث في حومتها إلا بقدر ما شاهد المنايا الحمر والسود، ورجالاً تفترس الأسود، حتى عاذ بالفرار، وطار به الخوف كل مطارٍ، وتجلل ملابس الخزي والعار، وأسلم من كان معه لأيدي الحتوف، وأنياب الصروف، وظبي السيوف، لو كان بذلها دونهم، وسمح بها لهم، أو كان فيها معهم، أو واسى بها نفوسهم، لكان ذلك له أزين، وبمثله أحسن، وكانت تلك الخطايا والذنوب التي ذكر أنها كانت السبب في الظفر، تمحص عنه، وتغفر له، ولكن ما لمحب الحياة، إلا أن يمعن في طلب النجاة، وما علم أن وفاة عزيزٍ خيرٌ من حياة ذليلٍ.
وأما دليل الوعيد والتهديد، فأينا أحق بأن يطول ويصول، ويتوعد بالإقدام والوصول؟ من منحه الله عقائل النصر وصفاياه، وخصائصه ومزاياه؟ أم من راح مهزوماً مكلوماً، معنفاً بين جماعته ملوماً. وكان الأولى أن يبدي ما عنده من العول والعويل، والأسف الطويل، وأن يندب من ذهب من أسيرٍ وقتيلٍ، وإن كان عنده بقيةً لنوبةٍ أخرى:
فإنَّ الْحُسامَ الصَّقيلَ الَّذي ... قُتِلْتُمْ بهِ في يَدِ الْقاتِلِ
فَإنْ كانَ أَعْجَبَكُمْ عامُكُمْ ... فَعودُوا إلى حِمْصَ مِنْ قابِلِ
وقد شاهدنا بالأمس ما تغني شواهده عن التطويل، وجملته عن التفصيل.
فصل في منشور: لما كان فلانٌ حقيقاً بما يتظاهر عليه من الإحسان، خليقاً بما يولاه من عارفةٍ وامتنان، ويجدد عنده من صنيعةٍ لا تخلقها يد الزمان، ويبوأ من رتبةٍ لا تعلق بها فوارع الآمال، ومنزلةٍ لا تبلغها همم النظراء والأمثال، ومكاناً لما نؤهله من التعويل عليه في سد الثغور، ورم الأمور، وسياسة الجمهور، وإيالة الصغير والكبير، وتصريف أعنة الرأي والتدبير، وكفاية الملم إذا حدث، ومساورة الملم إذا كرث.
فصلٌ وصل كتابه الكريم بما بشر به من الظفر الهني الذي نقع الغليل، والفتح السني الذي وقع الموقع الجميل، وأبان عن لطائف الصنع الجزيل، حين أبى فلانٌ الغوي الشقي إلا الاستمرار في مذاهب الضلال، والاغترار بكواذب الآمال، والاستجرار لجوالب الوبال والنكال، كأن لم يمض له ما فيه معتبرٌ لو اعتبر، وزاجرٌ عن المعاندة لو ازدجر، لكن أطاع وسواس النفس، وتناسى ما كان بالأمس، وساقه إلى خطة كذا سائقٍ الخسران، وحاول من استعادتها مالا تصل إليه يد الزمان، وحين علم بخفوف المواكب، ودلوف الكتائب، انقلب عنها بخيبة الأماني، ونفض يديه منها والرماح دواني، وتسرعت الخيول المنصورة، فأوقعت به الوقعة التي أجلت عن فراره، وكشفت عن سوء رأيه واختياره، وحصل عسكره ما بين هاربٍ مسلوبٍ، وهائمٍ على وجهه مطلوبٍ، وأسيرٍ أوبقته سوالف الذنوب.
فصلٌ من أخرى: وصل كتابه معرباً عن حال فلانٍ، وما استهواه من غرور الشيطان، وأماني الزور والبهتان، وحدث نفسه بمقاومةٍ تضعف عنها قواه، وتقصر دونها خطاه، ولا تثبت لها قدماه، لكن اتبع هواه فأضله عن الهدى، ولم يتذكر ما مضى في النوبة الأولى، بل ران على قلبه ما ران، وأطبق جفونه عما وعظته به مواعظٍ الزمان، حتى صار إلى عواقب الندامة والخسران: (وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ) ، وقصد موضع كذا ينازله، ويروم استعادته ويحاوله، حتى إذا أحس بدنو المسافة، طار بأجنحة المخافة، ولحقته الخيول المنصورة مسرعةً، ولآثاره متبعةً، فلبث قليلاً، وولى ذليلاً، ولم يغن فتيلاً، واقتسم عسكره، فما ترى إلا أسيراً أو قتيلاً.
فصل من أخرى: وصل كتاب مولانا، فوقف عليه، واعتد بنعمة الله فيما أبان عنه من رأيه الجميل، ورعايته التي لا تستحيل، وحلوله من منازل الاختصاص بألطافها، ومن رتب ذوي الإخلاص بأبعدها غايةً وأشرفها، بحيث تقصر عنها يد المتطاول، وتضؤل همة المتناول، ولا ينبعث لها أمل آملٍ، وقام بالشكر عنها، واستحفظ بما أفاضه منه بها، وأحسن المجاورة لها، وأخذ بأسباب الخدمة وسلك سبيلها، وتمسك بالطاعة وتفيأ مقيلها، وحافظ على فريضتي الوفاء والولاء محافظة من هدي لرشده، وأري مكان قصده، ووثق بسعادة جده، ونظر مكان الحيرة فيما اعتمده، فألقى به عصاه، وأطاع رأيه الصحيح وما عصاه.
فصلٌ: