غيث السماح، ليث الكفاح، غوث النجاح، طود الحجا، جود الندى، عود النهى، السديد الآراء، الشديد الإباء، فارس الجلاد، فارس الأجلاد، مطعان الهياج، مطعام المحتاج، عين إنسان الإحسان، وإنسان عين الزمان، معاذ الرجاء، وملاذ الفضلاء، يجل عن نظم الشعر قدره، ويزيد على فخر الأدب فخره، لكنه لكثرة مخالطة أهل الفضل قد خلص من الشوب، خلوص النضار غب الذوب، فما يفوه إلا بغريبةٍ، ولا يحبو إلا برغيبةٍ، ولا ينطف إلا ببديعةٍ، ولا يفهق إلا بصنيعةٍ، ينظم البيت والبيتين، ويرتجل القطعة والقطعتين، لتتم له الفضائل كلها.
أنشدني بنفسه بقلعة دمشق، ونحن بين يدي السلطان الملك الناصر في ذي الحجة سنة سبعين:
إذا شِئْتَ أَنْ تُعْطي الْأُمورَ حُقوقَهاوَتُوقِعَ حُكْمَ الْعَدْلِ أَحْسَنَ مَوْقِعِةْ
فَلا تَصْنَعِ المْعَروفَ مَعَ غَيْرِ أَهْلِهِفَظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوِضِعِهْ
هذان البيتان ينبئان عن فضله، وكرم طبعه، فإنه مغرم بإكرام الفاضل ورفعه، مغرى بإهانة الجاهل ووضعه. قلت له: هلا قلت: فلا تضع المعروف في غير أهله، فإني أكره مع وهي ثقيلةٌ يمجها الطبع السليم والخاطر المستقيم؟ فقال: كذلك قلته.
وأنشدني بيتين كتبهما بمصر إلى صديقٍ له:
عَرَتْني هُمومٌ أَرَّقَتْني لِعُظْمِها ... كما يَأْرَقُ الصَّبُّ الْكَئيبُ مِنَ الْوَجْدِ
وَلابُدَّ أَنْ أَدْعو شَقيقاً يُزيلُها ... فإنْ تَسْتَجِبْ يا بْنَ الرَّشيدِ فمِنْ رُشْدي
شعره ظرف الظرف، وحسن الحسن، وملح الملاحة، وجادة الإجادة، ومائدة الفائدة، ومأدبة الأدب، وعلم العلم، وحكمة الحكمة، ونور الحدقة، ونور الحديقة.
وله يداعب بعض أصدقائه وهو رجاء:
رَجاءٌ كانَ قِدْماً مُسْتَهاماً ... بِأَخْبارِ الرَّسولِ وَبالسَّماعِ
وَلا يَسْعى لِمَكْرُمَةٍ وَلكِنْ ... تَراهُ إلَى الْمَطاعِمِ خَيْرَ ساعِ
وَلا يَرْوي مِن الأَخْبارِ إلّا ... أُجيبُ وَلَوْ دُعِيتُ إلى كُراعِ
وله في مثل ذلك:
هذا أَبو الْخَيِر قَدْ أَضْحى لَهُ خُلُقٌ ... كَمادِرٍ فَهْوَ لا يَخْلو مِنَ الْعارِ
وَلَيْسَ يَرْوي مِنَ الأَشْعارِ قَطُّ سِوى ... قالوا لِأمِّهِمُ: بُولي عَلَى النَّارِ
وقال يداعب بعض أصدقائه من ندمائه، وكان يخضب لحيته، فنظم على لسانه:
بَكَيْتُ وَمِمَّا زادَني عِنْدَ سَفْرَتي ... مَلامُ الأعادي عَلَى صَبْغِ لِحْيَتي
أَمُدُّ لِصَبّاغٍ يُجيدُ خِضابَها ... قَذالاً مَديدأً عَرْضَ شِبْرٍ وَخَمْسَةِ
وَما صَبِغْهُا سَهْلٌ عَلَيَّ وإَنَّهُ ... يُقَوَّمُ عِنْدي كلُّ طاقٍ بِصَفْعَةِ
وقال:
مَنْ قالَ إنَّ رَجاءَ يَصْبغُ ذَقْنَهُ ... تَبّاً لَهُ بَلْ ذاكَ مِنْ خَدَّيْهِ
مَا الصِّبْغُ سَوَّدَ عارِضَيْهِ وَإنَّما ... وَجَناتُهُ نَفَضَتْ عَلَى لَحْيَيْهِ
وسألني أن أعمل في هذا المعنى، فارتجلت:
كانَ عَهْدي بِفُلانٍ شائِباً ... قَدْ فَشَتْ شَيْبَتُه في شارِبَيْهِ
وَأَراهُ الْيَوْمَ في صِبْغِ الصِّبا ... لَوْنُهُ الْحالِكُ قَدْ عادَ إلَيْهِ
ما أُراهُ خَضَبَ اللِّحْيَةَ بَلْ ... وَجْهُهُ الأَسْوَدُ أَعْدى عارِضَيِه
ولي في عز الدين فرخشاه قصائد، بعثني على نظمها فيه كرمه، ودعتني إليه مناقبه وشيمه، فإنني أول ما مدحته بقصيدةٍ مقضيةٍ موسومةٍ باسمه هائيةٍ أولها:
جَلَّتْ عَنِ الأَوْصافِ وَالَأْشباهِ ... أَوْصافُ عِزِّ الدّينِ فَرُّخْشاهِ
فاهتز لها واعتز، وهش لها وبش، وجاد وزاد، ورادف الرفد، وحالف المجد، واسترق ذخر الود، واسترق حر الحمد، وحفظ القصيدة حفظه للقصد، وصار ينشدها إنشاد المتبجح بها المعتد.
وأنا أورد الآن قصيدةً أخرى هائيةٍ، موسومةً بخدمته، خدمته بها وقت وصولي إلى مصر، أتشوق فيها الجماعة بالشام، وأتندم على مفارقتهم، سنة اثنتين وسبعين، وهي:
بَيْنٌ أَمَرَّ حَلاوَةَ الْعَيْشِ الشَّهِي ... وَهَوًى أَحالَ غَضارةَ الزَّمَنِ الْبَهِي