فالملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، أيد الله بالنصر سلطانه، وأيد بالشكر إحسانه، وإن كان لا يقول الشعر، لكنه ناقدٌ خبيرٌ، ونافذٌ بصيرٌ، بعجبه المعنى المعري، واللفظ السهل الأبي، وهو يحفظ من محاسن العرب ومزاين الأدب؛ وأعاجيب السير، وأساليب العبر؛ وقصائد القدماء، وشوارد الحكماء؛ ما يستشهد فيه لكل حادثٍ وحديثٍ؛ بما هو اللائق، ولا يجري في مجلسه ومأنسه إلا هو من الحكم والكلم الفائق الرائق، يحب الشعر الجيد ويحبوه بشعار جوده، ويكرم الفضل وينادي نداه إلى ناديه أهليه من تهائمه ونجوده، خرقٌ، صدره في الكرم أوسع من خرق فدفد، ولمحه من الحكم أسرع من برقٍ مرعد، ومجده في الأمم أرفع من فرق فرقدٍ؛ وكيف لا يتسم بالفضل من يستمد من ألفاظ الفاضل، ويستضيء برأيه الفاضل، ويعتمد على ركنه الأمنع، ويعتمد بيمنه الأمتع ويصول به على الخطوب المستطيلة فيقصر خطوها ويسطو بقلمه على الأهواء المضلة فيضعف سطوها، وما في بني أيوب من اشتغل بالأدب أو قرأ شيئاً من كلام العرب، لكنهم لمجالسة الأدباء، ومساجلة الألباء، ومذاكرة العلماء، ومكاثرة الحكماء، علموا فعملوا، وأقبلوا وقبلوا، وشملتهم السعادة من الملك الناصر، فنطقوا بكل غريبةٍ وسبقوا بكل رغيبةٍ.

وقد أوردت منهم من تولع بالنظم طبعاً فاتفقت له أبياتٌ موزونةٌ، كأنها في السرد مضاعفاتٌ موضونةٌ.

فمنهم:

الملك الأجل تقي الدين

عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي، ابن أخي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ذو السيف والقلم، والبأس والكرم، المشور في المشورة أري رايه، المشكور الشهامة في جميع أنحايه، وله العزم الماضي المضي، والخلق الراضي الأبي، يحل مشكلات الخطوب الحوادث بفكرته، ويحيل معضلات الصروف الكوارث بفطنته، ويساجل العظماء، ويجالس العلماء، ويثافن الألباء، وينافث الأدباء، ولكثرة امتزاجه بهم، نظم الشعر طبعاً، ولم يميزه خفضاً ونصباً ورفعاً، فأراد تاج الدين الكندي أن يتقرب إليه بتهذيبه فانتقى منه مئتي بيتٍ على حروف المعجم وترتيبه، وهو شهمٌ شديدٌ، وسهمٌ سديدٌ، وله فهمٌ حديدٌ. طالعت الذي جمعه من شعره التاج أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي. وقال في أوله: جمعت من شعر المولى تقي الدين ما عذب لفظه وراق معناه، وأخذ من الجزالة بطرفٍ، وتمسك من الرقة بأهدابٍ، فجرى من القلوب والأذهان، مجرى الدم في الأبدان، يلج الآذان، بلا استئذانٍ؛ هذا على أنه غير معنيٍ بقول الشعر عنايةً شاعر، بل هو فيض القريحة والخاطر، وما أشبهه إلا بسيف الدولة ابن حمدان وابن عمه، أو عضد الدولة ابن بويه وأقاربه، فإن هؤلاء الملوك كانوا على ما خصوا به من علو الشان، وأوتوه من سعة الملك والسلطان، يتفرغون للكتب، ويتشاغلون بالأدب، ويؤثرون مجالسة العلماء، على منادمة الأمراء، ويقولون الأبيات، فيما يعرض لهم من الحالات، ويتفق لهم من التشبيهات. ومثل هذا المعشر كان سبب قوله الشعر، فإنه لما استكثر من مجالسه الفضلاء، واستأثر بمعاشرة الأدباء وصلت إلى سوق رغبته من معادن المحاسن لطائف الطرف، وخدم من جواهر الخواطر بطوائف التحف، أحب أن يكشف لهم قناع الكتمان عن وجه المساهمة في الفضائل المتقرب بها إليه، وينخرط معهم في سلك المشاركة في نتائج القرائح المزلفة لديه، فجرى في هذا المضمار برهةً حلت مجانيها لجانيها، ولذت معانيها لمعانيها، ثم شغلته شؤون العلياء، بما عني به من إصلاح الدهماء، فترفع عن قول الشعر طبعه، ولم ينب عن استعذاب شربه فكره ولا سمعه، ولا كست بحمد الله لديه للفضائل سوقٌ، ولا ازدحمت على غير فنائه للرجاء سوقٌ. وهذه الملح تصلح أن تكون للحمام أطواقاً، وللبزاة الشهب صدوراً، وللطواويس أهلة جلوةٍ، وللظباء الغيد سوالف، وللعذارى الحسان نهوداً، وللحدق الملاح غمزاتٍ.

إلى هاهنا من كلام التاج الكندي. وأنا أقول:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015