كان المأمون قد أتى بقوم من ولد زياد بن أبيه وقوم من ولد هشان، وفيهم رجل من بني تغلب يقال له محمد بن هارون، فسألهم عن نسبهم فأخبروه، وسأل التغلبي عن نسبه فقال أنا محمد بن هارون، فبكى وقال أني لي بمحمد بن هارون، يعني وافق اسمه اسم أخيه محمد الأمين بن هرون الرشيد، فقال المأمون: أما التغلبي فيطلق كرامة لاسمه واسم أبيه، وأما الأمويون والزيادبون فيقتلون. فقال ابن زياد: ما أكذب الناس يا أمير المؤمنين إنهم يزعمون أنك حليم كثير العفو، متزرع في الدماء بغير حق، فإن كنت تقتلنا عن ذنوبنا فإنا والله لم نخرج أبداً عن طاعة، ولم نفارق في بيعتك رأي الجماعة، وإن كنت تقتلنا بجنايات بني أمية فيكم فالله تعالى يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. قال فاستحسن المأمون كلامه، وعفا عنهم جميعاً وكانوا أكثر من مائة رجل. ثم أضافهم إلى الفضل بن سهل ذي الرياستين ويقال إلى أخيه الحسن بن سهل.
فلما بويع لإبراهيم بن المهدي ببغداد في سنة اثنتين ومائتين وافق ذلك ورود كتاب عامل اليمن بخروج الأشاعر بتهامة عن الطاعة، فأثنى الحسن بن سهل على الزيادي وكان اسمه محمد ابن زياد، وعلي المرواني والتغلبي عند المأمون، وأنهم من أعيان الرجال وأفراد الكفاة وأشار بتسييرهم إلى اليمن، فسير ابن زياد أميراً، وابن هشام وزيراً، والتغلبي قاضياً، فمن ولد محمد هارون التغلبي هذا قضاة زبيد وهم بنو أبي عقامة ولم يكن بنو أبي عقامة هؤلاء قضاة فحسب، وإنما كانوا فقهاء ومحدثين وشعراء وذوي مكانة على النحو الذي نقرأ من تراجمهم عند العماد. وقد ظل فيهم القضاء يتوارثونه، حتى أزالهم ابن مهدي حين أزال دولة الحبشة.
ويذكر المؤرخون نصرتهم للشافعية، ويقول عنهم الجعدي: وفضائل بني أبي عقامة مشهورة وهم الذين نصر الله بهم مذهب الإمام الشافعي في تهامة، وقدماؤهم جهروا ببسم الله الرحمن الرحيم في الجمعة والجماعات.
وحين يتحدث الجندي في السلوك عن القاضي الشهيد أبي محمد الحسن يقول وله كتاب نوادر مذهب أبي حنيفة التي يستشنعها أصحاب الشافعية وقد صار الكتاب في اليمن قليل الوجود لأن الجنفية اجتهدت بتحصيله وإذهابه كما فعل بنو عقامة بمفيد جياش لأنه ثلم نسبهم وإذا كان بنو أبي عقامة قد صرفوا عن القضاء بسبب من سيطرة آل مهدي وانتصارهم للشيعة، فقد بقيت لهم مؤلفاتهم وكتبهم وظل منهم، على نحو ما يذكر صاحب التاج، بزبيد والقحمة بقية: وقد حاولت أن أضبط تسلسل بني أبي عقامة في جدول يبين عن تتابعهم، غير أني لم أستطع ذلك على النحو الذي أرجو من دقة، للتباين الذي وجدته بين نسقين: النسق الذي نوحي به الخريدة، والنسق الذي توحي به عبارة التاج آخر مادة عقم حين تحدث عن أحدهم: أبي الفتوح وذكر طافة من أهله.
ولم أجد سبيلاً للترجيح، ذلك أن صاحب الخريدة ينقل عن عمارة، وعمارة موثق معتمد، وثقة كثيرون ممن أرخوا لليمن أو ترجموا لرجاله، وكانت كتبه مصدراً من مصادرهم، الذي مثلاً حين تحدث عن بني أبي عقمة في السلوك يقول: " وقد اعتمدت في ذكرهم ذكره الفقيه عمارة وقد تقدم جماعة على ما ذكر عمارة ورتبه إذ هو خبير بهم فإنه صحب أمنهم فنقل عنهم أحوال متقدميهم.
كما أن العهد بصاحب التاج أنه يستوثق مما يروي، فلا ينقل إلا مطمئناً للذي ينقله والذي ينقل عنه.
ولهذا اضطررت أن أترك ذلك إلى أن يفتح الله بشيء يهدي إلى سواء السبيل.
القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عقامة
الحفائلي
من قضاة زبيدة، ذكر ابن الريحاني المكي أنه كان ذا مال كثير، وكانت له دار لها بابان، على أحد البابين مكتوب: باب إلى السعد، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يمنح وعلى الباب الآخر مكتوب: باب عن الشر يغلق، فطالب العلم يفتى، وطالب المال يرزق ذكر أنه قتله ابن مهدي علي لما تغلب على اليمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وكان له ولد فاضب شاعر قتله أيضاً. وأنشدني من شعره:
لِلمجدِ عنكمْ رواياتٌ وأَخبارُ ... وللعُلى نحوكمْ حاجٌ وأَوطارُ
تشتاقُكمْ كلُّ أَرضٍ تنزِلون بها ... كأَنَّكم لِبقاعِ الأَرضِ أَمطارُ
فحيثُ كنتمْ فثَغرُ الروض مُبتسمٌ ... وأَين سِرتمْ فدمعُ المزن مِدرارُ