وادخل إلى الغار واعتبر، واعلم أني قد ملكت البلاد وحكمت على العباد وما نلت من الدنيا المراد، قال: فدخل الإسكندر الغار وقد أسبل الدموع الغزار، فوجد شيخاً عظيم الهامة طويل القامة على سرير من الذهب ملقى، وقد ترك جميع ما ملك، وألقى يده اليمنى مقبوضة والأخرى مفتوحة، ومفاتيح خزانته عند رأسه مطروحة، وعلى يمينه لوح مكتوب فيه: جمعنا الماء وأمسكناه، وعلى شماله لوح مكتوب فيه: ثم رحنا وتركناه؛ وعند رأسه لوح مكتوب فيه:

لقد عمّرت في زمن سعيد ... وكنت من الحوادث في أمان

وقاربت الثريّا في علوٍّ ... فصرت على السرير كما تراني

فقال الإسكندر: سبحان الملك الذي لا عز إلا عزه. ووقع في قلبه الوجل والوله، فترك كل ما كان له وتخلى للعبادة وأصلح عمله وفرق الذخائر والخزائن، وتصدق بماله في الحصون والمدائن، وأعتق العبيد والخدم، وانتصب لعبادة الله على أحسن قدم وقال: أعزل نفسي قبل العزل، وأحاسبها قبل حساب يوم الفصل، ولبس الخشن والمسوح رغبة في ملك الأبد والثواب الممنوح، وجرح نفسه بسكين الجوى، حتى أعرضت عن مهاوي الهوى، لما وجد في الغار الدوا، وترك ما حاز واحتوى؛ واعتزل اللهو وانزوى، ولبساط الرغبة طوى؛ ولسان حاله ينشد لما تم له واستوى:

دع الهوى، فآفة العقل الهوى ... ومنتهى الوصل صدودٌ ونوى

وراقب الله، فأنت راحل ... إلى الثرى، ومعظم العمر انطوى

ما ينفع الإنسان يوم موته ... ما حاز من أمواله وما احتوى

يقسمها وارثه برغمه ... وهو بنار إثمها قد اكتوى

تب قبل شيب الراس، فالتائب لا ... يتبع شيب رأسه إلا التوى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015