معصومين من الخطأ والكذب، وإن كان ذلك مُسْتَبْعَدًا كما ذكرنا، لكن ذلك أورث شبهة منعت من الحكم عليه بالكفر.
وكلام الإمام الشافعي الذي ذكرناه واضح في هذا الحكم قال: «ولو شك في هذا شاك لم نقل له تُبْ، وقلنا: ليس لك إن كنت عالمًا أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم».
وقال الإمام صدر الشريعة في كتاب " التوضيح " في أصول الحنفية: «وَالوَاجِبُ لاَزِمٌ عَمَلاً، لاَ عِلْمًا، فَلاَ يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ، بَلْ يَفْسُقُ إِنْ اسْتَخَفَّ بِأَخْبَارِ الآحَادِ الغَيْرِ المُؤَوَّلَةِ، وَأَمَّا مُؤَوَّلاً فَلاَ».
ومعنى قوله مُسْتَخِفًّا أي بغير حجة على الإنكار، بدليل مقابلته بالمتأول. أما المستخف حقيقة فحكمه أشد.
وبهذا تكون قضية الخبر الآحادي الصحيح المجرد عن القرائن قد استكملت بيانها بما فيه الكفاية حسب مقتضى هذا المقام هنا إن شاء الله تعالى.
إذا كان التصديق يلزم بالحديث الصحيح الآحادي المجرد عن القرائن المقوية له، فإن من الأولى إلزام الاعتقاد بالحديث الصحيح المحتف بقرائن تجعله يفيد العلم النظري.
لكن هل يبلغ خبر الآحاد قوة إفادة العلم بالقرائن، أو لا يمكن أن يبلغ ذلك المبلغ:
يرى الإمام الغزالي أن القرائن قد ترقى بالخبر الصحيح إلى إفادة العلم، ويقول في ذلك (?):
«وَمُجَرَّدُ القَرَائِنِ أَيْضًا قَدْ يُورِثُ العِلْمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إخْبَارٌ؛ فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ تَنْضَمَّ القَرَائِنُ إلَى الأَخْبَارِ فَيَقُومُ بَعْضُ القَرَائِنِ مَقَامَ بَعْضِ العَدَدِ مِنْ المُخْبِرِينَ، وَلاَ يَنْكَشِفُ هَذَا إلاَّ بِمَعْرِفَةِ مَعْنَى القَرَائِنِ وَكَيْفِيَّةِ دَلاَلَتهَا، فَنَقُولُ: لاَ شَكَّ فِي أَنَّا نَعْرِفُ أُمُورًا لَيْسَتْ مَحْسُوسَةً، إذْ نَعْرِفُ مِنْ غَيْرِنَا حُبَّهُ لإِنْسَانٍ وَبُغْضَهُ لَهُ وَخَوْفَهُ مِنْهُ وَغَضَبَهُ وَخَجَلَهُ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ فِي نَفْسِ المُحِبِّ وَالمُبْغِضِ لاَ يَتَعَلَّقُ الحِسُّ بِهَا قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهَا دَلاَلاَتٌ آحَادُهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، بَلْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ، وَلَكِنْ تَمِيلُ النَّفْسُ بِهَا إلَى اعْتِقَادٍ ضَعِيفٍ.
ثُمَّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ آحَادُهَا لَتَطَرَّقَ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ، وَلَكِنْ يَحْصُلُ القَطْعُ بِاجْتِمَاعِهَا».
ويقول الغزالي أَيْضًا (?): «وَكُلُّ دَلاَلَةٍ شَاهِدَةٍ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ كَقَوْلِ كُلِّ مُخْبِرٍ عَلَى حِيَالِهِ، وَيَنْشَأُ مِنْ الاجْتِمَاعِ العِلْمُ، وَكَأَنَّ هَذَا مَدْرَكٌ سَادِسٌ مِنْ مَدَارِكِ العِلْمِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي المُقَدِّمَةِ مِنْ الأَوَّلِيَّاتِ وَالمَحْسُوسَاتِ وَالمُشَاهَدَاتِ البَاطِنَةِ وَالتَّجْرِيبَاتِ والمُتَواتَرَاتِ فَيُلْحَقُ هَذَا بِهَا.
وَإِذَا كَانَ هَذَا غَيْرَ مُنْكَرٍ فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ التَّصْدِيقُ بِقَوْلِ عَدَدٍ نَاقِصٍ عِنْدَ انْضِمَامِ قَرَائِنَ إلَيْهِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ القَرَائِنِ لَمْ يُفِدْ العِلْمُ، فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ عَنْ مَوْتِ إنْسَانٍ لاَ يَحْصُلُ العِلْمُ بِصِدْقِهِمْ، لَكِنْ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ خُرُوجُ وَالِدِ المَيِّتِ مِنْ الدَّارِ حَاسِرَ الرَّأْسِ حَافِيَ الرِّجْلِ مُمَزَّقَ الثِّيَابِ مُضْطَرِبَ الحَالِ يَصْفِقُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ ذُو مَنْصِبٍ وَمُرُوءَةٍ لاَ يُخَالِفُ عَادَتَهُ وَمُرُوءَتَهُ [إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد] (*) وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ ... ».