وبادأهم محمد بذكر آلهتهم، وكان من قبل لا يذكرها، وعابها، وكان من قبل لا يعيبها. هنالك عظم الأمر على قريش وحزّ في صدورهم؛ وبدؤا يفكرون التفكير الجدّ في أمر هذا الرجل وما هو لاق منهم وما هم لاقون منه، لقد كانوا إلى يومئذ يسخرون من قوله، وكانوا إذا جلسوا في دار النّدوة أو حول الكعبة وأصنامهم فجرى ذكره على ألسنتهم لم يثر أكثر من ابتسامات استخفافهم وإستهزائهم. أمّا وقد حقّر من شأن آلهتهم وسخر مما يعبدون وما كان يعبد آباؤهم، ونال من هبل ومن اللات والعزّى ومن الأصنام جميعا، فلم يبق الأمر موضع استخفاف وسخرية، بل أصبح موضع جدّ وتدبير. أو لو أتيح لهذا الرجل أن يؤلب عليهم أهل مكة وأن يصرفهم عن عبادتهم فماذا تؤول إليه تجارة مكة؟ وماذا يكون مقامها الديني؟
لم يكن عمّه أبو طالب قد دخل في دين الله، لكنه ظلّ حاميا لابن أخيه قائما دونه، معلنا استعداده للدفاع عنه. لذلك مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب، فقالوا: «يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فسنكفيكه» فردّهم أبو طالب ردّا جميلا.
ومضى محمد يشتدّ في الدعوة إلى رسالته، ويزداد لدعوته أعوانا. وائتمرت قريش بمحمد ومشوا إلى أبي طالب مرّة أخرى ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وكان أنهد فتى في قريش وأجمله، وطلبوا إليه أن يتخذه ولدا ويسلمهم محمدا، فأبى. ومضى محمد في دعوته ومضت قريش في ائتمارها. ثم ذهبوا إلى أبي طالب مرة ثالثة وقالوا له: «يا أبا طالب، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفّه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين» . وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطلب نفسا بإسلام ابن أخيه ولا خذلانه. ماذا تراه يصنع؟ بعث إلى محمد فقصّ عليه رسالة قريش، ثم قال له: «فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق» .
وأطرق محمد إطراقة وقف إزاءها تاريخ الوجود كله برهة مبهوتا لا يدري بعدها ما اتجاهه. وفي الكلمة التي تفتر عنها شفتا هذا الرجل حكم على العالم: أهو يظلّ في الضلال يمدّ له فيه، فتطغى المجوسيّة على النصرانية المتخاذلة المضطربة وترفع الوثنية بباطلها رأسها الخرف الأفن. أم هو يضيء أمامه نور الحقّ، تعلن فيه كلمة التوحيد، وتحرر فيه العقول من رقّ العبودية والقلوب من أسر الأوهام، وترتفع فيه النفس الإنسانية لتتصل بالملأ الأعلى؟ وهذا عمه كأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فهو خاذله ومسلمه. وهؤلاء المسلمون ما يزالون ضعافا لا يقوون على حرب ولا يستطيعون مقاومة قريش ذات السلطان والمال والعدّة والعدد. إذا لم يبق له دون الحق الذي ينادي الناس باسمه نصير، ولم يبق له سوى إيمانه بالحق عدّة. ليكن! إن الآخرة خير له من الأولى. فليؤد رسالته وليدع إلى ما أمره ربه. ولخير له أن يموت مؤمنا بالحق الذي أوحى إليه من أن يخذله أو يتردّد فيه. لذلك التفت إلى عمّه ممتلئ النفس بقوّة إرادته وقال له: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» .
يا لعظمة الحقّ وجلال الإيمان به! اهتزّ الشيخ لما سمع من جواب محمد، ووقف كذلك مبهوتا أمام هذه